هل تحتاج الأمة للتجديد في راهنها ؟

08 فبراير 2023
08 فبراير 2023

في مقالي في الأسبوع قبل الماضي، والذي حمل عنوان: «كيف تجدد الأمة تفكيرها ووعيها الثاقب؟»، تحدثت فيه عن مسألة تجديد التفكير الذاتي في داخلها، وكيف تراجع الأمة تفكيرها الراهن، وفق الوعي الحضاري المجسّد في الشعور العام، والحاجة الذهنية المتوقدة للمراجعة الجدية التي تتبنى الرؤى الراهنة للواقع العربي بظروفه وواقعه القائم، وإعادة النظر في الركود والجمود الذي ربما أسهم في هذا الواقع سلبيا، دون الحركة الدائبة التي تجعل من الرؤى الإيجابية والتماهي مع المنظار الواسع لما ينبغي أن ينطلق ويتحقق بالفعل، وتنطلق في مسارات تجديدية، ووفق ما يعزز نهضتنا ووجودنا في الانطلاق الحضاري الذي يراد له أن يتقدم دائما دون إبطاء أو خمود، كما نهضت الأمم الأخرى التي وجدت الفارق الكبير بينها وبين الشعوب والثقافات الأخرى. وقد ناقشني بعض ممن قرأ هذا المقال الذي تحدثت فيه عن مسألة تجديد الفكر الذاتي، وأشادوا بهذا الطرح وأهمية الفكرة ذاتها بصفة عامة، وحاجتنا الضرورية لمثل هذه القضايا المركزية في فكر الأمة وتثوير واقعها الهامد وغير المنسجم مع إرثها الحضاري في ماضيها المبدع، في ظل التحديات القائمة في مجالات عديدة تستحق المناقشة والمراجعة للخروج مما تعيشه في حاضرها، والذي يهدف إلى رقي الأمة في التفكير والمراجعة، بما يجعلها تستعيد ما فاتها من تخلف علمي وحضاري وتنموي، وأشار بعضهم إلى أنني لم أتوسع في طرح الرؤية الإسلامية للتجديد، وما نريده من هذا التجديد، ورؤية الدين في هذا التجديد كما حدده الفكر الإسلامي تجاه القضايا المرتبطة بمسألة التجديد، وما يراه أيضا أصحاب التوجهات الليبرالية والعلمانية تجاه مسألة التجديد وحدوده، فبعض هؤلاء يريدون تجديدا وفق مفهومهم، الذي يكتسب مرجعيته من ثقافة الغرب ورؤيته الفكرية والفلسفية والقيمية، وهذا ما يراه البعض من المفكرين تبديدا وتقليدا لا تجديدا مبدعا من داخل فكر الأمة الذي تنطلق منه في رؤاها ومنطلقاتها.

ولا شك أن الإسلام حث على التجديد والنظر والبحث في كل مسارات الحياة، وكما جاء في العديد من الآيات في القرآن الكريم، وأنكر التقليد دون التفكير والانقياد دون رؤية واعية، أو الاتباع دون أن يكون يقظا جيدا لما يعرض عليه من آراء وأفكار، وكأن المرء أصم عن سماع حقائق الحياة وحركتها الدائبة، من هنا ذم الإسلام التقليد والجمود دون التفكر والتدبر والنظر، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة الشعراء: (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)، فلولا هذه الدعوة للتجديد لما قامت الحضارة العربية/ الإسلامية في أوج مجدها، وهذه مسألة مبدئية في كل الثقافات الإنسانية، ونتذكر أنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، واتهام تنظيم القاعدة بتدبير هذا العمل العنيف المرفوض، برز مسار جديد في الحديث عن التجديد الإسلامي المطلوب من قبل بعض الغربيين، سواء من المستشرقين الذين لهم أبحاث ودراسات ومؤلفات عن الفكر والتاريخ والقيم الدينية المرتبطة بالمفهوم السياسي بالأخص، أو من الباحثين المعاصرين، ممن لهم اهتمام بالعالم العربي والإسلامي المتأخر، إذ تحدثوا في كتاباتهم وأبحاثهم، في الندوات والمحاضرات والملتقيات الفكرية والسياسية، عن ضرورة التجديد في الفكر الإسلامي، وأهمية التصدي لفكر العنف الديني الذي يتخذ من بعض الآيات والأحاديث مرجعا في هذه الهجمات، والتي نتج عنها آلاف القتلى والجرحى، وضرورة نقد هذه التصورات السياسية الدينية التي أدت إلى ما جرى في هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، على نيويورك وواشنطن من قبل تنظيم القاعدة كما أشرنا آنفا، وجعلوا الإسلام محط الاتهام! مع أن كل علماء ومراجع المؤسسات الدينية، اعتبروا هذا العمل مخالفا للقيم الإسلامية وفي نصوصها الأصلية، وهو في نفس الوقت، أدى إلى مقتل الآلاف من المسلمين في حادث البرجين، وهذا ما يؤكد أن التطرف لا يفرق بين الديانات، ولذلك حصلت العديد من العمليات الإرهابية في العديد من الدول العربية نفسها.

ونتذكر بعد ما جرى من هجمات في الولايات المتحدة في ذلك العام، بدأت العديد من الكتابات من الأقلام الغربية، تتحدث عن أهمية التجديد أو تحديث الفكر الإسلامي، ونقد العنف السياسي أو نقد الحركات الراديكالية التي تتبنى العنف والتكفير بحسب أقوالهم، ودون أن يفرقوا بين النضال المشروع، لما سلب الحقوق، كما يفعل الفلسطينيون في نضالهم ضد الصهيونية الاستيطانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، وبين الهجمات المتطرفة لبعض الجماعات التي تنسب للإسلام، مع أن هذه الأعمال مرفوضة ومدانة، ومن هذه المقالات التي تحدثت ناقدة وتطلب تحديث الإسلام أو تجديده، ما كتبه الصحفي الأمريكي الشهير» توماس فريدمان» في جريدة (نيويورك تايمز)، بعد أسابيع قليلة من حادثة البرجين، عنونه بطلب من أجل قيام: (حركة نقدية من أجل تحديث الفكر الإسلامي)، وكتب البعض من الباحثين الغربيين في الجانب، وخاصة المستشرق «برنارد لويس»، و«صامويل هنتغتون»، وهما من أقرب الباحثين إلى صناع القرار في البيت الأبيض، من الجامعات الغربية، وسبقه كتاب هنتغتون (صدام الحضارات)، هو أحد الآراء التي تدفع للصراع بين الحضارات والثقافات، وقد تلقى الكثير من الردود على هذه الأطروحة المغالية والدعوة للصراع، بدل الحوار والتفاهم.

والحقيقة أن التجديد، مطلب داخلي لا شك عندما تتراكم الكثير من الآراء والخرافات حول الدين، وهي بعيدة عن جوهره أو كما يهدف إليه مفهوم التجديد كما يقول العلامة الهندي وحيد الدين خان، الرؤية هو: «تطهير الدين الإلهي من الغبار الذي يتراكم عليه، وتقديمه في صورته الأصلية النقية الناصعة». كما أن التجديد هو فهم الواقع في راهنه، والنظرة الحصيفة، والتبصر لما ينبغي أن نأخذه من قيمه ونظرته وتنمية جوهره الصافي، كما جاء في صورته الأولى بعيدا عن الخرافات والإضافات التي ليست منه، ولذلك فإن التجديد الحق منوط بالواقع الذي يتم اختياره من داخل الأمة وليس من خارجها أو يفرض عليها، لأن الفرض والقسر والإرغام، يعد انتهاجا للثقافة الذاتية التي لا يمكن أن تجبر على ما لا تراه يوافق فكرها وثقافتها ودينها، وهذا تتبناه كل الحضارات والثقافات الإنسانية، لكن هذا لا يعفينا من المراجعة لما نحن فيه من الأزمات والمعوقات، وهذا لا دخل للدين فيه، كما يحاول بعض الغربيين الذين يحاولون إسقاط بعض ما جرى في أمم أخرى تجاه محاربة الدين للعلم والتقدم، الذي ليس من ديننا بل كان الدين الإسلامي هو الدافع للعلم والتحضر والتقدم، ومن هنا لا بد أن نأخذ من القيم ما هو أنفع وأجدى للأمة في مسيرتها الفكرية والحضارية، ومنها تجديد الأفكار تجاه المعارف المعاصرة والنهوض الحضاري، الذي نريد توطينه، دون أن نحرق المراحل، من حيث التدرج المحسوب لهذا التقدم المنشود، صحيح أن الأزمة الحضارية للأمة، لها مؤثرات سابقة لقرون مضت، وهي حالت دون استمرار الانطلاقة الحضارية لأسباب عديدة ليس مجال حديثنا في هذا المقال.

لكن هذا الواقع المتأزم لا يعفي هذه الأمة من الصمود والنهوض لتغيير ظرفها الطارئ إلى الأفضل، لتجدد الرؤى الدافعة لما أفضل لواقعها، ولذلك يشدد الدكتور طه جابر العلواني على أهمية المشروع الحضاري من واقعها، وليس الانسحاق أو الانصهار في فكر الآخر، وهذه الرؤى التجديدية هدفها: «إصلاح مناهج الفكر ضروري لإزالة الخلط بين المبادئ المحفوظة والبرامج والأوعية الفكرية المطلوبة لحركة الحياة، وبين القيم الثابتة والأفكار الغائبة، فالانحسار الذي تعاني منه أمتنا ناتج عن أزمة فكر بالأساس، لأن العطاء الفكري للحضارة الإسلامية وإسلامية المعارف قد توقف عند حدود العقول السابقة، وكأن الله خلق لنا عقولا لنعطلها عن التفكير المنتج، ونمنعها من الابتكار، ونحول دونها ودون الإبداع الذي يشترطه الصمود في وجه تيارات الهجوم الحضاري». مطلب التجديد في الأمة سيظل قائما وملحا عندما تحتاج إلى التقويم والتجديد والإصلاح والمراجعة النقدية عندما تحس بالخطر من التراجعات والأزمات، دون أن تبتعد عن قيمها وذاتيتها الفكرية المبدعة.