هل بدأ الصراع الدولي بتعدد الأقطاب؟

17 أغسطس 2022
17 أغسطس 2022

مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتلاشي المعسكر الاشتراكي برمته، فإن بعض دوله انضمت إلى المعسكر المناوئ، سواء الانضمام إلى حلف الناتو، أو إلى الاتحاد الأوروبي، وبدأ الحديث بعد ذلك يدور حول القطبية الأحادية في العالم، واستفراد الولايات المتحدة بالنظام العالمي الجديد دون منازع، أو بدون منافس لها في مكانتها الاقتصادية والعسكرية، أو هكذا توقع المراقبون لما جرى بهذا السقوط المدوي المفاجئ لدولة عظمى كبيرة ومعسكر كبير وهي الكتلة الشرقية الاشتراكية، التي تتبع الاتحاد السوفييتي في الفكر والإيدولوجيا، كان العالم في فترة القطبية الثنائية، تستطيع الدول الصغيرة، أو الدول التي يقال عنها غير منحازة أن تبني علاقاتها مع أحد المعسكرين في ظل الحرب الباردة، وفي ظل الصراع الذي يدور بينهما على النفوذ في العالم، ومحاولة شن حروب استخباراتية لعرقلة قدرات العسكرية مع بعضهم البعض، أو شن حروب داخلية بين الدول المنضوية في التحالفات بين المعسكرين، إما لإنهاك بعضهم البعض في القوة العسكرية، أو في الإنهاك الاقتصادي وتأثيره على جوانب سياسية أيضا.

بدأت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1947، وانتهت هذه الحرب في عام 1991، بسقوط المعسكر الشيوعي كما أشرنا آنفا، وهذا ما جعل الولايات المتحدة ترى نفسها هي القطب الأوحد في العالم، وراحت تتصرف، وكأنها تقود النظام الدولي الجديد، بل أعربت أنها شكلت نظاما جديدا بعد غياب المعسكر الاشتراكي، وفي مقدمته الاتحاد السوفييتي، وهذا ما قاله الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991. وعندما فاز الجمهوريون بالرئاسة الأمريكية 2001 ـ 2009، وتولى جورج بوش الابن الحكم في الولايات المتحدة، تم التخطيط لاحتلال العراق بزعم امتلاكه للأسلحة النووية، مع أن هذه المعلومات التي قيل عنها كانت مفربكة ولا أساس لها من الصحة، وهو ما اعترف به الرئيس جورج بوش الابن بأنها غير صحيحة، وتم الاعتذار بعد ذلك، مع أن هذه تعد جريمة قانونية في العرف الدولي، فقد تم شن الحرب على العراق في عام 2003 تحت هذه الذرائع والمعلومات الكاذبة، مع أن العراق خرج من الحرب مع إيران وهو يعاني من متاعب اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة، وخرج ضعيفا من هذه الحرب الخاطئة التي جلبت له الآثار السلبية التي يعاني منها حتى الآن. وهو ما جعل الجمهوريون يفكرون في احتلاله، لأسباب عديدة، وتم غزوه تحت هذه المعلومات المضللة. ومن هنا جاءت هذه الحرب بدون تغطية أممية من المنظمة الدولية، وهذه بلا شك تبرز أن مقولات النظام الدولي الجديد يمكن تجاوزها وعدم أخذها مأخذ الجد، تحت أي من الذرائع وفق الفلسفة البرجماتية التي صاغها الفيلسوف الشهير «وليم جيمس». وخلاصتها الفلسفية أنه يمكن قياسها وفق مردودها السياسي والاقتصادي، مع أن القوانين والنظم وحقوق الإنسان الدولية، ترفض تقديم المنفعة على حساب أمة أخرى دون مبرر في تدميرها، وجلب الأذى والدمار لشعبها وهو ما تم في ظل النظام الأحادي القطبية. وكذلك الحرب على أفغانستان واحتلاله بحجة محاربة الإرهاب في أكتوبر 2001، وتدمير قواعده، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، مع أن العالم كله استنكر هذه الهجمات التي طالت الأبرياء في نيويورك وواشنطن. ولا شك أن ما جرى من عدة أشهر من قيام روسيا الاتحادية بشن حرب على جمهورية أوكرانيا، فتح الباب لتوترات بين روسيا والمعسكر الرأسمالي الغربي، والمتمثل بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تجاه الحرب الروسية التي هي أيضا غير مبررة، لكن هذه الحرب ربما الغرب يستفيد منها لإنهاك روسيا في حروب هنا وهناك وإطالة أمدها، وهذه ربما تكون لها أهدافها في الحرب الباردة التي بدأت بوادرها في حرب أوكرانيا، من خلال قيام دول غربية بإمداد أوكرانيا بأسلحة مختلفة لتصمد في وجه الغزو الروسي، كما أن ما جرى من أيام قلائل من توترات عسكرية في تايوان بين الصين والولايات المتحدة، ربما تفتح الباب واسعا لقيام حرب باردة جديدة، ربما تقود لحرب فعلية لو تطورت هذه التوترات إلى تهديدات غير متوقعة بين أطرافها، وهو ما تنبأ به السياسي الأمريكي الشهير هنري كيسنجر بقيام حرب بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا، ومع أن هذه الفرضية ليست متوقعة فعليا، لكنها ستكون حربا باردة وصراعا اقتصاديا شديدا بينهما، وكل الاحتمالات واردة في أن تحصل توترات قد تدفع إلى حرب عالمية ثالثة، كما حصل في فترة الحربين الكونيتين في القرن الماضي. وهو الذي يدعو للاستغراب مما يجري الآن من توترات وحروب يتم دعمها، أو الاشتراك فيها بالمال والعتاد، دون أن يجدوا حرجا من تجاوز آراء وأقوال عن أهمية نزع فتيل التوترات والحروب في العالم، واللجوء للحوار والتفاوض من خلال المنظمات الدولية، في الوقت الذي يفترض أن تزداد العلاقات الدولية تقاربا وتتجه إلى التعاون ونبذ استخدام القوة في الخلافات والنزاعات البينية، وغيرها من المشكلات الأخرى الاقتصادية وإثارتها والتي يتم تحريكها من خلال الحرب الباردة، وقد عانت منها الدول الصغيرة من القرن الماضي، وما تزال تحدث بين الحين والآخر.

وهذا يخالف ما قالته بعض الدول الكبرى التي تطالب بالاندماج الاقتصادي والتقارب الدولي وإنعاش الحركة التجارية، وادعت أنها تسعى، كما يقول الباحث محمد سعدي، إلى خلق المزيد من الارتباط والتداخل بين مختلف مناطق العالم وإلى تكريس الاعتماد المتبادل بحيث أصبحت كل أجزاء المعمورة تتواصل وتتفاعل في ما بينها. ويمكن القول إنه إذا كان الإنسان قد ظل يعيش على هذا الكوكب منذ ملايين السنين، فإنه لم يستطع إلا خلال العقود الأخيرة أن يعيش ويحقق خطوات مهمة نحو المجتمع ـ العالم والاقتصاد ـ العالم بالمعنى الحقيقي للاصطلاح. فقد بدأ الحديث اليوم عن مجتمع يتشكل فوق المجتمعات المحلية ويتحرر من الانتماءات والروابط اللغوية والقومية والثقافية والجغرافية، للاندماج في مجتمع عالمي تقني منسجم. وإذا كان العالم بالغ التعقيد من حيث بنيته السياسية، والاقتصادية، والثقافية والاجتماعية، فإن التطور الذي يعرفه يرسخ فكرة تحول العالم إلى «قرية كونية صغيرة». لكن هذه الأقوال تخالفها الأفعال والممارسات في الواقع المعاش فيما يجري من صراعات وتوترات وحروب صغيرة تحدث بين الفينة والأخرى، وأصبح الأمر يزداد سوءا ونذر الحرب الكبرى أصبحت تلوح في الأفق ـ إن لم يتم نزع فتيلها ـ وهذه قضية لا بد لها من رؤية ثاقبة من أصحاب العقول النيرة التي تفكر في مصلحة البشرية جميعها، وليس في المصالح الذاتية التي تدفع إلى رهانات خاصة وحسابات مادية، لا تتعلق بمصالح الشعوب والأمم التي تعاني من مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية، بسبب ما يجري من حروب داخلية، وأكثرها بسبب زيادة السكان والأوضاع السياسية التي هي نتيجة من نتائج الفقر لدى شعوب كثيرة في عالم اليوم.

والإشكال الذي جرى في أحداث سابقة ويجري الآن، أن إثارة الحروب والتوترات كان بعضها لبيع السلاح، مما يجعل الهيمنة وفرض الشروط على الدول التي تعاني أزمات ما بعد هذه الحروب واقعا لا مفر منه، وهو الهدف من هذا الذي يجري منها، ولعل الأمر الأكثر غرابة هو تشجيع الحروب الجانبية ـ كما يقول د.محمد المجذوب ـ وهي بلا مواربة أصبحت: «سياسة دائمة وثابتة في هذا الصراع بهدف إيجاد وسائل للاختراق السياسي الذي يهدف بطبيعة الحال إلى إضعاف قدرة أحد الأقطار للآخر دون الوصول إلى مرحلة الصدام الخطير والقبول بسقوف محددة للصراع الذي كان الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، هو الوحيد الخاسر في هذه المرحلة بالنهاية المعروفة ! بعد المتغيرات في المعسكر الشرقي وتوحيد ألمانيا وانهيار الاتحاد السوفييتي كادت لتؤكد أن «الحرب الباردة» بين القطبين انتهت فعلا وأن «كتلة عدم الانحياز» هي الأخرى انحلت عمليا ليبدأ العالم بالتشكل ضمن مرحلة جديدة ذات سمات مختلفة نوعيا عن المرحلة السابقة من دون سمات هذه المرحلة ونظامها والأسس والقواعد التي تحكمها عدا التصريح الشهير الذي أدلى به الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب أثناء الحرب الخليج الثانية، بأن « سلطة القانون لا سلطة الغاب هي التي تحكم هذه الدول في المستقبل». وهذا كله طار في الهواء الطلق! لأن المعايير المزدوجة تلعب دورا مؤثرا في السياسة الدولية، فالمهم أن يتم التفكير بعقلانية واعية من قبل الدول الكبرى، لأن الحرب لن تطالهم فقط، بل تأثيرها سيشمل العالم بأسره، وهذا ما نأمل عدم حدوثه في الأزمات الساخنة.