هل الكشفية مهد الفكر الريادي؟

18 يوليو 2023
18 يوليو 2023

من منا لم يدخل بنفسه تجربة الأنشطة الكشفية أثناء مراحل التعليم المدرسي، أو يشاهد أحد المقربين لديه يخوضها بكل ما تحمله من متعة ومغامرة؟ ولا يختلف اثنان أن هذه الأنشطة تُعد من أهم مصادر إكساب المهارات وصقل الشخصية، ولكن هل فكرتم يوما أن شعار الكشافة «كن مستعدا» قد يحمل في جعبته الكثير من الدروس لريادة الأعمال؟ وأن المهارات التي يحتاجها رائدٌ في الكشافة والمرشدات هي نفسها التي تصنع رائد العمل الناجح والمتميز؟

تشير الأدبيات الحديثة إلى أن الفكر الريادي على تنوعه الكبير الذي يمتد ليشمل ريادة الأعمال الأكاديمية والعلمية والهندسية والتكنولوجية والمعرفية والابداعية والتجارية، يتطلب في الأساس خمس مهارات أساسية وهي: تحديد الأهداف، والإدارة المالية، والذكاء الاجتماعي، واتخاذ القرار المناسب في الوقت الملائم، والتحلي بأخلاقيات العمل، بالإضافة إلى الذكاء العاطفي والميزات الفردية الأخرى المهمة مثل الفضول العلمي، والثقة، والابتكار، وإن كانت هذه المهارات عامة، ويمكن اكتسابها بالدورات التدريبية، إلا أن الأنشطة الكشفية قد أثبتت قدرتها على ترسيخ هذه المهارات بصورة أعمق، لأن عملية اكتسابها تتشكل عن طريق التعلم بالممارسة، والتجريب والخطأ، ثم إدراك موضع الخلل، مما يتيح الفرصة لبناء عقلية ريادة الأعمال بكل رسوخ وتركيز، ولا نبالغ إذا قلنا أن معظم رواد الأعمال الناجحين خاضوا تجربة الأنشطة الكشفية خلال مرحلة ما من المراحل المختلفة للتعليم، وقد عمدت الكثير من الاقتصادات المعاصرة إلى التركيز على بناء رواد الأعمال الناشئين منذ عمر مبكر، وكذلك تشجيع المسار الريادي في مختلف المراحل العمرية لإضفاء التوجه الإبداعي على معظم الفئات المجتمعية.

تعالوا نقترب أكثر من الأنشطة الكشفية، وكيف يمكنها تسهيل الوصول إلى الخبرات والمهارات والأدوات اللازمة التي تبني وتمكن قادة العمل المبتكرين، من ذوي العقلية الريادية على إدارة الفشل بشجاعة، والنهوض ومواصلة المحاولة المرة تلو الأخرى، وصناعة مستقبل مهني مستقل، تأتي في مقدمة هذه المهارات القدرة على الإدارة المالية وتنظيم الوقت، وهما من أبرز المحاور التي تصنع الفارق الكبير بين الريادي الناجح، والمتطفل على ريادة الأعمال. إن بناء عقلية ريادة الأعمال يعني في المجمل تعليم الناشئة بناء عادات مالية أساسية، وترسيخ الانضباط بالوقت كمورد ثمين، وضمان التدفق المستمر للمعلومات من واقع تجارب الحياة الواقعية، لعبور الفجوة بين عالم الفصول الدراسية والتعليم النظري، وبين مستقبل عالم الأعمال المليء بالتحديات والفرص والصعوبات ومختلف السيناريوهات.

وهذا يجعل موضوع محو الأمية المالية مهما في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى، فواقع الحال يظهر أن الفجوة كبيرة عندما يتعلق الأمر بتعليم الناشئة مهارات الإدارة المالية، فمن جهة لا تتضمن المقرّرات التعليمية مبادئ المعرفة والثقافة المالية بشكل مباشر وواضح، ومن جهة أخرى لا تتوفر أدوات وبرامج خارج المناهج التعليمية بما فيه الكفاية، كما أن علماء السلوك يؤكدون على أن معظم أولياء الأمور يجهلون أهمية إشراك أبنائهم في الحديث عن الأمور المالية، مثل نفقات الأسرة، والمشتريات، وكيفية تقسيم الدخل الشهري على المتطلبات، ولماذا يعتذرون أحيانا عن تلبية طلبات الأبناء في الخروج للتنزه وتناول الطعام في الخارج، وشراء الألعاب الباهظة الثمن؟ وهذا الوضع سائد في جميع دول العالم، إذ يرى الخبراء أن محو الأمية المالية يجب أن يكون في قائمة أولويات التعليم المدرسي، والتنشئة الأسرية، والثقافة المجتمعية، بحيث تبدأ عملية تعلم أساسيات وأهمية المال في حياة الإنسان منذ سن الخامسة، والبدء في تكوين عادات مالية صحيحة وممارستها في الواقع ببلوغ سن السابعة.

وفي الحياة الواقعية، حيث تنخرط الفرق الطلابية في مهام وأنشطة المخيمات الكشفية، بعيدا عن محيط الحماية والوفرة الدائمة التي تسخرها الأسرة، يمكن تطوير وبلورة مهارات تنظيم الوقت، والإدارة المالية التي تنمي العقلية الريادية، لأن الدرس الأول الذي يتعلمه منتسبو هذه المخيمات هو الاعتماد على النفس، فالكشفي يتخذ قراره بنفسه معولا على المعطيات المحيطة به دون إرشاد الوالدين، وهي تجربة ثمينة في وضع أولى الخطوات على عتبة ريادة الأعمال، من حيث إتاحة نموذج فريد في تولي زمام القيادة من خلال الأنشطة العملية في سنٍ مبكرة، وبنفس القدر تسهيل اكتساب المهارات الاجتماعية والتفاعلية المساندة من خلال التنقل بين مجموعات متنوعة من الموضوعات والأنشطة مع مختلف الفرق والمرشدين والمشرفين على المخيم، وهذا ينطبع في ذاكرة منتسبي الفرق الكشفية، ويتشكل كأساس لانتهاج التعلم والعمل التشاركي، والتعاطي مع التحديات بشكل يسهم في تحقيق فهم أعمق لما وراء هذه الصعوبات، وليس البحث عن حلول سريعة لتجاوزها، هكذا تتيح الأنشطة الكشفية التعلم بالممارسة العملية التي هي أساس تشكيل الهوية الريادية في عالم سريع ومتشابه.

ولكن الحركة الكشفية لا تقتصر على بناء المهارات والقدرات، هناك بعدٌ مهم لدعم بناء رواد الأعمال الناشئين، وهو تأصيل القيم الإيجابية، والسلوك المهني الأخلاقي والمسؤول، الذي يعد العمود الفقري للصمود والاستدامة في عالم ريادة الأعمال، ومنها تنبثق القدرات الداعمة للبقاء والاستمرار، مثل مهارات تقدير المخاطر، والتعلم من الإخفاقات السابقة، والتعايش مع الشركاء والمنافسين، وحل النزاعات بشكل عملي، والحفاظ على تطوير علاقات عمل صحية، وقائمة على الثقة وتقاسم المنفعة، والأهم من ذلك كله الالتزام بمراجعة وتقييم الأداء السابق بطرح خمسة أسئلة عميقة وذات مغزى، وهي: ما هي المهام والقرارات التي نجحت بشكل فعّال وواضح؟ وما هي المسارات التي تستوجب الاستمرار مستقبليا؟ وما هي جوانب الإخفاق في تحقيق الأهداف المرسومة؟ وما هي المسارات التي يجب تعديلها وتطويرها أو تغييرها؟ وما هي أهم الدروس المستخلصة من الأعمال السابقة الناجحة منها والمتعثرة؟

وهذا يوصلنا للنقطة المركزية وهي أن نصيحة «كن مستعدا» التي يتعلمها الكشفي في أول يوم له، هي نفسها محور انطلاق رواد الأعمال الناشئين، ففي عالم الأعمال لا تسير الأمور كما هو مخطط لها تماما، لذلك تتصدر مهارات المرونة والقدرة على التكييف قائمة السمات الأساسية لإنجاح المحاولات الريادية في أوقات عدم وضوح الرؤية المستقبلية، إذ تؤكد الدراسات العلمية أن من أهم عقبات الانخراط في ريادة الأعمال هو التخوف من حدوث التغييرات غير المحتملة، وعدم وجود أدوات التكييف اللازمة لعبور السيناريوهات غير المواتية بأقل الفواقد، وعبارة «كن مستعدا» يجب أن تكون حاضرة في أذهان رواد الأعمال بمعناها الواسع، بتحديد الأهداف الطموحة، وتخصيص الوقت الجيد للتخطيط ومتابعة التنفيذ، وترك بصمة عمل متفردة وملهمة للآخرين.

ووفقا لبيانات المنظمة الكشفية الأمريكية Girl Scouts USA فإن أكثر من نصف صاحبات الأعمال الصغيرة الناشئة في الولايات المتحدة هن فتيات الكشافة السابقات، لأن الكشفية أصبحت مصدر إلهام كبير للعقول الشابة، من حيث قدرتها على بناء الثقة بجدوى صناعة النجاح من تنفيذ خطوات صغيرة وتراكمية، وكما هو الحال دائما، فإن النجاح في تأسيس شركات ناشئة ليس في حد ذاته الهدف الرئيسي من إبراز دور الفكر الكشفي في بناء القيادات الشابة، وإنما يجب النظر إلى دوره الأكبر في بناء المهارات الحياتية، وقدرات التعلم لمدى الحياة، التي يمكن توجيهها إلى مسارات ريادة الأعمال، أو العمل الوظيفي، أو تحقيق التميز في أي مجال ابداعي آخر، وسواء كان طموح النشء يتمحور حول المجالات العلمية والتكنولوجية، أو الجوانب التجارية، إلا أن مساهمة الفكر الكشفي تبقى واحدة، لأنها تقوم على إضافة القيمة لأحلام المستقبل، عن طريق بناء وجلب المهارات المهنية في الوقت المناسب، وترجمتها بناءً على الواقع العملي، وهذا لا يعني الاعتماد على البرامج الكشفية لوحدها، إذ يمكن تحليل مناهج الفكر الكشفي، ثم تبنيها ومحاكاتها افتراضيا في بيئات التعلم لتعزيز الحصول على المكاسب الاستراتيجية، نحو تأصيل ريادة الأعمال والابتكار والقيادة، فلطالما كانت القيادة والعمل الجماعي والإبداع ووجود هدف للعمل من أجله في صميم الكشافة، وقد يُنظر إلى هذه القيم على أنها مهارات تقليدية في خضم التطورات التكنولوجية التي تتطلب المواكبة التقنية، إلا أنها أساسية وملازمة لكل عصر، وستظل دائما ضرورية للتقدم والنمو وتحقيق التطلعات المهنية والمجتمعية.