هل استجاب العرب للمدنية الحديثة في عصر النهضة؟

16 مارس 2022
16 مارس 2022

عندما انفتح العرب على مدنية الغرب الحديثة، من خلال البعثات التعليمية في الجامعات الغربية في أواخر القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وجد هؤلاء أن الغرب قطع شوطا كبيرا في النهضة المدنية والعلمية، وهذا ما حفز بعض هؤلاء عن الكتابة عما هو واقع الأوروبيين من التمدن والتقدم، وهذا جاء بطلب من المؤسسات الفكرية في مصر التي أرسلتهم للدراسات العالمية، في أن يعطوا الصورة الصحيحة، كان الهدف أن ما وصل إليه الغرب، وما نحتاج إلى مجاراته، والاستفادة من منهج هذه النهضة العلمية والتكنولوجية، ولذلك اهتم بعض ممن درس في الغرب، خاصة فرنسا وبريطانيا بالكتابة عن هذه التمدن والنهضة الصناعية، التي أخرجت أوروبا مما تعانيه من تخلف في القرون الوسطى، وهذا لا شك مهمة وطنية، في معرفة الوسائل والطرق التي جعلتها تتقدم في البحوث والدراسات العلمية، والتي مهدت لهذا التقدم.

ومن هؤلاء الطلبة الذين تابعوا وكتبوا عن حركة النهضة في الغرب، العالم الأزهري، رفاعة الطهطاوي، والوزير خير الدين التونسي، وهذه الكتابات كانت تهدف إلى تنبيه الأمة للحاجة إلى مراجعة الواقع العربي/ الإسلامي، للجمود والتراجع في مستويات كثيرة، الذي لاشك له أسبابه الموضوعية ـ وهذا ليس مجال حديثنا ـ والهدف من هذه المؤلفات هي طرح الأفكار التي تساعد على الخروج من واقع يحتاج إلى تحريك ساكنه من الجمود والتأخر، فيما أمم كثيرة نهضت وتقدمت، ونالت مستوى مهما من التمدن الحديث. ففي كتاب رفاعة الطهطاوي (مناهج الألباب إلى مباهج الآداب)، طرح الكاتب الطهطاوي ما ينبغي أن ننطلق منه، سواء في الجانب النهضوي المادي، أو من الجانب الفكري الإسلامي، للوصول للمدنية الحديثة، بما يلائم واقعنا ويخرجنا مما نعيشه في ظروف التأخر، ومما قاله الطهطاوي في هذا الكتاب: «إن للتمدن أصلين: معنوي، وهو التمدن في الأخلاق والعوائد والآداب، ويعني التمدن في الدين والشريعة ـ وربما يعني بهذا التجديد وطرح المقاصد ـ وبهذا القسم قوام الملة المتمدّنة التي تسعى باسم دينها وجنسها للتميز عن غيرها. والقسم الثاني تمدن مادي، وهو التقدم في المنافع العمومية». والواقع أن التمدن لم يغب عن الرؤية الإسلامية، منذ العصور الأولى وما بعدها، خاصة في أوج الحضارة العربية الإسلامية، لكن التراجعات، حصلت بعد القرن الخامس الميلادي، خاصة بعد غزو التتار، ثم الغزو الصليبي، وهذه الغزوات أسهمت في التراجع النهضوي، ويرى الكاتب السعودي زكي الميلاد: «إنّ هذه الفكرة ـ في الكتابة عن واقع الغرب ـ قد تبلورت وتحدّدت ونضجت خلال الفترة ما بين منتصف القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن العشرين، وهي الفترة التي يصفها الدارسون العرب المعاصرون بعصر النهضة، أو بمرحلة الفكر الإسلامي الحديث. ولو بحثنا ـ كما يشير الميلاد ـ عن النصوص والمواقف والكتابات التي أشارت إلى هذه الفكرة، لوجدنا أنها تنتمي كما وكيفا إلى تلك الفترة المحدّدة، وهناك كانت البدايات الفعلية التي تؤرخ لهذه الفكرة، ومنها أخذت طريقها في التطور والتراكم الممتدّ والمتعاقب زمنا وتاريخا».

أما ما قاله الوزير خير الدين التونسي في كتابه ( أقوم المسالك في معرفة أحوال المالك)، فقد شرح ما يعيشه الغرب، وما توصل إليه من تقدم في العلوم المختلفة، ويعلق الباحث العربي زكي الميلاد، على هذا الكتاب، فيقول: «إنه يعد أحد أهم المؤلفات التي شرحت في وقته، ما وصل إليه التمدن الأوروبي من تفوق وتوسّع، يكاد سيله أن يجرف ما حلوه من شدة تدفقه وتمدده، الوضع الذي خشي منه التونسي على الأمة الإسلامية من الغرق حسب وصفه، إذا لم تنتبه إلى ضرورة الاقتباس منه في مجال التنظيمات الدنيوية». ولا شك أن الانكشاف الكبير بعد ما يسمى بـ(صدمة الغرب)، أوجد مثل هذه الآراء التي تحذر وتنبه مما نحن فيه من واقع، من الضروري أن نفتح الآراء لمناقشة وضعنا الذي نحن فيه، ومن الذين نبهوا إلى قضية التخلف الذي نرزح فيه، وتقدم الغرب، ما كتبه الأمير شكيب أرسلان في كتاب الموسوم بهذا الاسم: (لماذا تأخرنا وتقدم الغرب)، كانت قضية التمدن بعد الانفتاح على أوروبا، قضية القضايا، من أجل أن نتحرك ونبحث عن هذه الأسباب، وعندما جرى بين الأمام محمد عبده ومجادليه عن قضية التخلق والجمود، رد عليهم ردودا اتسمت بالمنطقية، أن ما نحن فيه كان طارئا، وليس رؤية متأصلة في ديننا أو تراثنا الفكري، وقد ناقش هذا الأمر د.فهمي جدعان في كتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث)، حيث ناقش الحوارات التي اتهمت الإسلام أنه معاد للعلم والتمدن، ويرى فهمي جدعان: «إن الهجمة على الإسلام من حيث هو تمدن، أو من حيث هي «ديانة مضادة للتمدن» قد شحنت الجو الفكري الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بحمّى الجدل الإسلامي ـ الغربي أو الإسلامي المسيحي لما أضافه النقاد الغربيون من أمثال رينان وكوزان وكرومر وهانوتو من القول: إن المسيحية هي المولدة للتمدن، وأن الإسلام مضاد له لا يتفق معه». ورد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، على بعض هذه الحملات على الإسلام، ومما قاله رينان، في محاضرته في باريس وكانت بعنوان (الإسلام والعلم)، وكانت بمثابة هجوم على الإسلام والمسلمين، وهي لا تمد للرصانة العلمية التي تتجرد من النقد البعيد عن المصداقية، وكانت ترديد لما قاله بعض المستشرقين الغربيين، والتي رد عليها الأكاديمي الفلسطيني «ادوارد سعيد»، وقد اعتبر رينان أن الإسلام كارها للعلم، ومخالفا للتمدن، ولم يكن متسامحا مع الأديان الأخرى إلا عندما كان ضعيفا، وغيرها من الشبهات التي أثارها عن الإسلام، ومما قاله فيما قاله في هذه المحاضرة: «إن أي شخص مطلع ولو قليلا على أحوال عصرنا يعرف مدى تدني مستوى البلدان الإسلامية بالقياس إلى أوروبا ومدى الانحطاط الذي أصاب الدول المحكومة من قبل الإسلام ومدى الخواء الفكري للشعوب التي تستمد من هذا الدين فقط ثقافتها وتربيتها. كل أولئك الذين زاروا بلاد الشرق أو أفريقيا الشمالية صدموا بمدى محدودية عقل المؤمن الحقيقي هناك. لقد صدموا بذلك النوع من القفص الحديدي الذي يحيط برأسه من كل الجهات ويجعله مغلقا كليا على العلم وعاجزا عن استيعاب أي شيء مختلف أو الانفتاح على أي فكرة جديدة». وقد رد الإمام محمد عبده على أرنست رينان، وجاء رد الإمام محمد عبده على رينان أكثر عقلانية وهدوءا، وكان واضح المقاصد بما يرد تلك الشبهات التي أثارها رينان في هذه المحاضرة، ومما قاله الإمام في رده على رينان:«لا يصح أن ينسب إلى الإسلام، وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها ليس فيها ما يصح أن يكون أصلا يرجع إليه شيء مما ذكرت ولا مما تنبأ بسوء عاقبته رينان وغيره وإنما هي علة عرضت على المسلمين عندما دخلت على قلوبهم عقائد أخرى سكنت عقيدة الإسلام في أفئدتهم، وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من عقولهم». ويضيف الإمام محمد عبده في فقرة أخرى من رد على الفيلسوف الفرنسي رينان ما يؤكد عدم صحة استنتاجاته تجاه نظرة الإسلام تجاه العلم والتمدن، فيقول: «كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم، يسيح به في الأرض ويصعد به إلى أطباق السماء، ليقف به على أثر من آثار الله، أو يكشف به سرا من أسراره في خليقته، أو يستنبط حكما من أحكام شريعته، فكانت جميع الفنون مسارح للعلوم تقطف من ثمارها ما تشاء، وتبلغ من التمتع بها ما تريد، وتبلغ وقف الدين، وقعد طلاب اليقين، وقف العلم وسكت ريحه، ولم يطن ذلك دفعة واحدة، ولكنه سار سير التدريج».

وتعتبر هذه الجدلية بين الإمام محمد عبده «وأرنست رينان» أول مناظرة تجري بين الإسلام والغرب في القرن التاسع عشر عام 1883، وجاء الرد من محمد عبده بما يوضح حقائق الإسلام وكشف الشبهات التي طرحها الفيلسوف الفرنسي، عن قضية ربط الإسلام بالجمود الذي ساد في فترة من الزمن، واعتبره طارئا على الإسلام، وليس أصلا من أصوله الفكرية، فهو في ردوده على بعض الغربيين وغيرهم، هدفه إنارة عقول بعض المسلمين من الاختراق الثقافي، مع الحملة الاستعمارية، وهناك العديد من الكتاب ردوا على التهم الغربية تجاه العلم والمدنية وغيرها من الشبهات. وللحديث بقية...

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية: مؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين».