هل اختلفت أنماط القيادة في بيئات العمل الحديثة؟

14 مارس 2023
14 مارس 2023

إذا تأملنا بيئات العمل في واقعنا اليوم نلاحظ بوضوح تناقص أعداد الموظفين من ذوي الخبرات والخدمة الطويلة، وكذلك نجد أن معظم العمليات المؤسسية صارت من مسؤولية الآلة بفعل الأتمتة المتسارعة، وظهور المجتمعات المهنية في العوالم الافتراضية، وفي الجهة الأخرى تفاجئنا التكنولوجيا بالتقنيات الحديثة والمتقدمة التي تتطلب وجود الكفاءات المدربة، إذ تتوفر مجموعة لا حصر لها من البرامج والتطبيقات والمنصات وحزم الأدوات الإجرائية الخاصة بإدارة المشاريع وتسيير العمل، وكذلك من أجل صياغة التقارير والعروض المرئية، وفي خضم كل هذه التغيرات هناك سؤال محوري يطرح نفسه، وهو: هل التفت قادة العمل إلى أهمية تطوير النمط القيادي ليتناسب مع هذه البيئات المهنية المستجدة والمدفوعة بالتكنولوجيا، وأصبح أغلب موظفيها من شريحة الشباب؟ وهل سيأتي اليوم الذي يتم فيه توظيف الذكاء الاصطناعي لتصميم قيادة العمل حسب نوع المؤسسة ومهامها؟ وللإجابة على هذا التساؤل ولتقريب الصورة أكثر دعوني آخذكم أولا إلى وحدات دعم الأطفال الخدج من ذوي الحالات الحرجة، حيث يطلب الأطباء من الوالدين أن يتحدثوا إلى طفلهم أثناء جلسة التدليك اليومية، وأن يتقربوا من الطفل مكانيا وعاطفيا وروحيا، لدعم البرتوكول الطبي في المعالجة، وبذلك يستقبل الطفل رسائل تحثه على التطور عبر المستقبلات السمعية واللا حسية معا، وتعزز مناعته وبذلك ترتفع فرص التعافي والنمو واكتساب الوزن، وهذا النهج يماثل إلى حدٍ كبير روح القيادة الخدمية المتفانية Servant leadership التي تمزج بين المحاور المختلفة، بدافع توجيه جميع المسارات في تحقيق الهدف المنشود، فنجد أن القائد الخدمي يجمع بين دعم فريق العمل، وإظهار التقدير، ومشاركة المهام والقرارات، والاستماع الجيد دون إطلاق أحكام متعجلة، والتعلم والتطور المشترك.

فعالمنا يعيش عصر الثورة المعرفية التكنولوجية التي اختصرت المسافات والحدود الجغرافية، لم يعد الموظف بحاجة ماسة لأن يكتسب مهارات المعرفة المهنية الكاملة ممن سبقه في العمل، لأن منحنى التطور السريع يفرض على جميع الموظفين التعلم المستمر، والسعي نحو اكتساب مهارات القرن الواحد والعشرين، حتى مفهوم الخبرة العملية لم يعد كالسابق، فعدد سنوات العمل والأقدمية المهنية ليست بالضرورة نقطة قوة في ظل معطيات عالمنا المتجدد والمتطور، وهنا يبرز الدور الحقيقي لقيادة العمل بين رؤساء الفرق، ومديري التقسيمات الإدارية بمستوياتها المختلفة، فالموظفون وخصوصا شريحة الشباب هم في أمس الحاجة إلى نمط القيادة الخدمية المتفانية التي تسعى بالأساس لإنتاج العديد من القادة المتميزين والمختلفين، قيادة عمل تؤمن أن تحقيق النتائج لا يأتي من تنفيذ العمليات بشكلها الروتيني المعتاد، وإنما من تمكين الموظفين وتطويرهم وتوجيههم للتجديد وتحقيق أعلى مستويات الأداء، والثقة بأن الإنتاجية على مستوى فرق العمل وعلى المستوى المؤسسي هو مسؤولية كل فرد ينتمي لفريق العمل أو المؤسسة.

دعونا إذن ننظر في فلسفة القيادة الخدمية، ومدى مناسبتها كأسلوب للقيادة في بيئات العمل المستجدة، وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محلها، في البداية ظهر مصطلح القيادة الخدمية في مطلع السبعينيات، حين صاغ المفكر روبرت جرينليف تعريفا يفيد بأنه «نهجٌ أخلاقي لتحقيق الأهداف الفردية والمؤسسية التي تنبع من الثقة بأن المؤسسة يمكنها أن تحقق النجاح عن طريق القيادة المحنكة القادرة على بناء مجتمع مهني مترابط»، وفي واقعنا يجب أن يكون الترابط بين العامل البشري والعمليات المؤسسية والتكنولوجيا الداعمة لبيئة العمل، مع التركيز على دعم الموظفين والشركاء والمستفيدين من خلال إيجاد المعنى الحقيقي لوجودهم كجزء من هذا المجتمع المهني، وبذلك تعد القيادة الخدمية من الأصول المؤسسية القيّمة.

وتتميز القيادة الخدمية بالالتزام الفعلي بخدمة الموظفين والشركاء والمستفيدين، وذلك من منطلق الإيمان الكامل بأن ذلك هو المغزى الحقيقي لوجود القائد على دفة القيادة، وضرورة إبقاء ذلك في بؤرة التركيز الاستراتيجي، فنمط القيادة الخدمية ينجح حينما تبدأ المؤسسة بإحداث فارق كبير في نمو الكوادر البشرية، وفي جذب المواهب والاحتفاظ بها، وتحقيق أهداف القيادة التي تحولت من غايات استراتيجية إلى هدف كل فرد في الفريق أو المؤسسة، وصارت صورة مستقبل العمل مسؤولية الجميع، وبذلك تتحول فرق العمل والمؤسسات إلى خلايا إنتاجية نشطة توظف الإمكانات البشرية والمعرفية والتكنولوجية، من أجل بناء جسور من العمل التشاركي والتكميلي، وإطلاق العنان لمجموع الإمكانيات الفردية في الابتكار والإبداع، والشعور بالهدف، وصناعة النجاح.

ويرى عدد كبير من الخبراء والمفكرين والباحثين بأن فلسفة القيادة الخدمية قد غيرت المفاهيم السائدة لديناميكية القيادة التقليدية، وهي النموذج الأكثر فاعلية لعالم الأعمال في وقتنا الحاضر، فقد أحدثت جائحة كورونا تحولا مفاهيميا في أنماط العمل التي كانت تتطلب تجاوز القيود المكانية، فظهرت بشكل جلي صور لم يعهدها واقعنا من قبل، مثل العمل عن بعد، أو بيئات العمل البعيدة أو الهجينة، وهي جميعها تقوم على مرتكز المرونة التطبيقية، والإدارة الذاتية لفرق العمل، وبناء وسط تشغيلي داعم للانسجام والتآزر بين فرق العمل والإدارات العليا، على نحو مغاير للتسلسل الهرمي للإدارة التقليدية، فنهج القيادة الخدمية يركز على الجانب البشري، بدلا من النهج المتمحور حول العمليات المؤسسية.

وقياسا على ذلك فإن بيئات العمل المستجدة والمليئة بالطاقات الشابة هي في أمس الحاجة لنمط القيادة الخدمية، حيث إن مهمة توجيه هذه الطاقات نحو الإبداع ليس بالأمر الهين، كما أن تأثير البعد التكنولوجي وتسارع التغييرات المعرفية الأخرى يضع عبئا آخر على أنماط القيادة التقليدية، أما من منظور القيادة الخدمية فإن الموارد البشرية هي بمثابة مورد مهم واستراتيجي يجب الاستثمار فيه، وتزويده بالمعرفة والمهارات عن طريق التدريب الموجه والتعلم المستمر، وبذلك فإن هذا التوجه يسهم في تأسيس بيئة وثقافة عمل داعمة لطموح وتطلعات فئة الشباب، وهذا بدوره يرفع من الانتماء المؤسسي لهذه الشريحة المهمة، فالموظفون الأصغر سنا هم الأكثر عرضةً للدوران الوظيفي، والبحث عن فرص ناشئة وتغيير أماكن العمل.

وهذا النمط من القيادة الخدمية يعتمد على الكثير من الذكاء العاطفي، ولذلك فإنه ليس بالهين أن يقوم الذكاء الاصطناعي بأدوار القيادة الخدمية بشكل كامل، وكما يقول مايكل تيمز خبير القيادة الإبداعية والمستشار والمدرب العالمي عن القادة الذين ينتهجون القيادة الخدمية: « إنهم يأخذون الموظفين في وقت مبكر من حياتهم المهنية، ويعتبرونهم قادة المستقبل، فيباشرون عملية تطوير المواهب والكفاءات بالتخلي عن مهامهم وصلاحياتهم الإدارية بشكل انتقائي، بحيث يمكن للموظفين الولوج إلى عالم القيادة، وقيادة مشاريع معينة، وتحمل ملكية المبادرات والأفكار الجديدة، هذا هو ما يبني الثقة في الموظفين المستجدين، وهكذا يتم صناعة قادة المستقبل، وهو مطلب أساسي للقيادة الخدمية الفعالة، إذ لا بد من إدراك أن أهداف العمل، مهما كانت متنوعة وتتطلب خبرات معينة، لن يتم الوصول إليها دون تقاسم العبء والمسؤولية مع بقية فرق العمل، وهذا هو أهم عناصر التمكين في المجتمعات المهنية».