هجوم «دونالد ترامب» على الرأسمالية
ترجمة - أحمد بن عبدالله الكلباني
يمكنك توجيه سؤال لأي محافظ في أمريكا عن السبب الذي يجعل من بلاده دولة عظيمة، فستكون الإجابة في أغلب الأحيان وحتى أسبوع مضى، أن أمريكا بلد تنأى حكومتها عن التدخل في الأعمال التجارية، إلى جانب أسباب ومميزات أخرى بطبيعة الحال.
أعترف أن هناك استثناءات، ويتبادر في ذهني حاليا الشركتان الوطنيتان «فاني ماي» وهي مؤسسة أمريكية كبرى مختصة بالرهون العقارية، و«أمتراك» وهي شركة السكك الحديدية الوطنية في الولايات المتحدة، إلا أن سجل كل منهما في ما يتعلق بسوء الإدارة يعتبر سجلا ضعيفا والنتائج متواضعة لكل منهما، وهذا قد يدعم وجهة نظر المحافظين، في حين أن الشركات الوطنية في الدول الديمقراطية أخرى تعتبر نماذج ناجحة جدا، وعلى سبيل المثال شركة «إيرباص» في أوروبا، فهي شركة تحقق نجاحات كبرى بين حين وآخر، إلا أن «اليد الثقيلة» للحكومات بالعادة تدفع الشركات مع مرور الوقت إلى الوقوع في مشكلات متراكمة، ومن أبرز تلك المشكلات قضايا الفساد والبيروقراطية وقلة الكفاءة، إلى جانب تغليب حماية الشركات المتعثرة خوفا من سقوطها، وفقا لقواعد السوق.
إلا أننا نشهد اليوم واقعا مختلفا، فالتيار المحافظ في أمريكا في فترة رئاسة دونالد ترامب أصبح متغيرا إلى الحد الذي يصعب فيه التعرف عليه، وعلى أقل تقدير بالنسبة لأولئك الساذجين -ربما- الذي كانوا يعتقدون أن لهذا التيار مبادئ ثابتة تتخطى مجرد السعي من أجل السُلطة وإساءة استخدامها، ومن الأمثلة الأخيرة على هذا الأمر، أن الحكومة الفيدرالية أصبحت مشاركة في ملكية شركة «إنتل» وتمتلك أسهما بها، وهي الشركة التي توصف بعملاق صناعة الرقائق الإلكترونية.
ففي هذا الشهر دعا ترامب إلى استقالة الرئيس التنفيذي الجديد لشركة «إنتل» وهو «ليب بو تان»، وذلك بالاستناد إلى تهمة مريبة تقول بأنه كان مستثمرا في شركات تكنولوجية صينية كبيرة ترتبط -على حد زعم مسؤولين أمريكيين- بالجيش الصيني، وهنا أذكر بأن «ليب بو تان» مواطن أمريكي مولود في ماليزيا وقد نشأ في سنغافورة.
ولم يكن ذلك كافيا بالنسبة لترامب، فقد قرر أن يحول ما يصل إلى 9 مليارات دولار من الدعم الحكومي للشركة، وذلك بموجب قانون الرقائق الإلكترونية (CHIPS Act) لعام 2022، وهذا البرنامج الصناعي الهدف منه تعزيز صناعة أشباه الموصلات الأمريكية، ومشاركة الحكومة الأمريكية مباشرة في هذه الصناعة التي تقوم بها «إنتل».
وقد جاءت هذه النوايا بشكل صريح على لسان ترامب، وذلك عندما التقى بـ «تان» في البيت الأبيض، إذ قال له: «تعرف ماذا، في اعتقادي أن الولايات المتحدة يحب أن تستحوذ على 10 بالمائة من إنتل»، وقد وافق «تان» سريعا على ذلك، وبعد ذلك بيومين، خرج ترامب متفاخرا في وسائل التواصل الاجتماعية مؤكدا أن هناك المزيد من مثل صفقة «إنتل» سيتم عقدها لصالح أمريكا «طوال اليوم».
بالمقارنة مع أي رئيس ديمقراطي، فإنه إذا اتخذ قرارات مثل التي اتخذها ترامب مع «تان» أو أي مدير تنفيذي أمريكي آخر، سيعتبر الجمهوريون أن ما يفعله هذه الرئيس الديمقراطي هو ابتزاز سياسي وإعلان عداء على «الرأسمالية» وخسارة كبيرة مؤكدة سيتكبدها دافعو الضرائب، وربما سيكون الجمهوريون حينها على حق، خاصة وأن القيمة السوقية لشركة «إنتل» تراجعت اليوم إلى حوالي 107 مليارات دولار، مقارنة ببداية الألفية حيث وصلت قيمتها نحو 500 مليار دولار، وهذا التراجع الذي من المتوقع أن يتواصل سيكون خسارة لأموال المساهمين ودافعي الضرائب.
أما بالنسبة للحجج الأخرى التي يسوقها البعض للاستثمار في شركة «إنتل»، وعلى سبيل ذلك القول إنها تمثل أهمية محورية للنظام الاقتصادي الأمريكي (كما كان الحال مع البنوك في أزمة 2008 المالية)، أو أنها مسألة تتعلق بالأمن القومي (كما هو الحال اليوم مع صناعة المعادن النادرة والحيوية)، أو أنها تُعد رمزا لقوة الصناعة الأمريكية (كما يُقال عادة عن «بوينج»)، لكن كل هذه المبررات لا تصمد أمام التدقيق، فالنظام البيئي لصناعة الرقائق في أمريكا، بدءًا من شركة «إنفيديا» ومرورا بـ «مايكرون» و«كوالكوم»، وهي صناعة تزدهر بقوة، ورغم أن عدد موظفي «إنتل» بلغ حوالي 110 آلاف موظف حول العالم في نهاية العام الماضي، إلا أنها تتضاءل إذا ما قورنت بأكبر الشركات الأمريكية، وبالتالي إذا انهارت «إنتل» أو واصلت التعثر لسنوات مقبلة فلن يكون مصيرها مختلفا عن مصير قائمة طويلة من الشركات الأمريكية التي فقدت مجدها السابق مثل «سيرز» و«كرايسلر» و«آي.بي.إم» و«جنرال إلكتريك».
لكن الأسوأ من فشل «إنتل»، هو أنها بصدد أن تصبح سابقة خطيرة.
ففي بيان صحفي، أصرت الشركة على أن حصة الحكومة ستكون مجرد «ملكية سلبية»! من دون مقاعد في مجلس الإدارة أو أي حقوق في الإدارة أو الحصول على المعلومات. لكن هذا أشبه بالسماح لـ «نمر» بالدخول إلى منزلك على وعد رسمي بأنه لن يهاجم الثلاجة أو يلتهم أطفالك!
لقد أصبحت «إنتل» الآن جزءا من مجموعة الشركات والجامعات ومكاتب المحاماة التي تعيش حالة من الانقياد، تحت خوف دائم من تدوينة في «تروث سوشال»، وهي المنصة التي يملكها ترامب، أو من تهديد بوقف التمويل أو تعطيل الإجراءات التنظيمية، وهذا من دون أن نذكر المداهمات المحتملة من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) التي قد تصل إلى كل من عمل مع ترامب ذات يوم ولم يُظهر له القدر الكافي من الولاء والطاعة.
أما الجمهوريون الذين يصفقون لترامب يوميا في استعراضاته المتسلطة، فعليهم أن يتساءلوا على الأقل ما الذي سيحدث لحرية أمريكا الاقتصادية وقدرتها التنافسية عندما يُعيد ترامب صياغة أمريكا على أساس الدولة المتحكمة بالاقتصاد؟ إن تحكم ترامب الشخصي المباشر في قطاعات اقتصادية متزايدة الاتساع، وبمبررات تتراجع يوما بعد آخر، هو بداية مسار طويل لا يملك مكابح سياسية ولا مبادئ تهدئ من رعونته.
خصوصا وأن السيطرة الحكومية المتزايدة على القطاع الخاص لطالما كانت هدفا من أهداف التيار التقدمي «اليساري»، وليس المحافظ. بل إن تيارا من «الاشتراكية الجديدة» أصبح يتسرب إلى بعض أوساط «اجعلوا أمريكا عظيمة مجددا» وهذه العبارة انطلقت مع الحملة الانتخابية لترامب في 2016 وأصبح شعارا لمناصريه، وخاصة لدى من يخلطون بين التعاليم الاجتماعية الكاثوليكية والواقع الاقتصادي. وينبغي على هؤلاء أن يتذكروا أن اللعبة السياسية في الأنظمة الديمقراطية لا يحتكرها طرف واحد، فكما فعلت إدارة ترامب مع برنامج «60 دقيقة»، قد تفعل إدارة يسارية الأمر نفسه مع قناة «فوكس نيوز» أو «نيوزماكس». وما يفعله ترامب اليوم مع «إنتل» قد يتحول قريبا إلى نموذج يُفرض على عشرات وربما مئات الشركات الأمريكية، كما أعلن ترامب في منصات التواصل، حيث يطالب «العم سام» وهي الكنية المشهورة للحكومة الأمريكية، بحصة ذهبية فيها.
إني قد ذكرت في العام الماضي بأن الجمهوريين سوف يندمون على الفترة الرئاسية الثانية لترامب، وإنه على المحافظين المبدئيين ألا يتوهموا أن ترامب يقف في صفوفهم، وكل ما يمكن قوله اليوم «إن الأمور سوف تزداد سوءا».
بريت ستيفنز كاتب عمود رأي في صحيفة نيويورك تايمز، يكتب عن السياسة الخارجية والسياسة الداخلية والقضايا الثقافية.
خدمة نيويورك تايمز
