نموذج تنموي جديد

03 يونيو 2023
03 يونيو 2023

تنتقل سلطنة عُمان إلى مرحلة أخرى من مراحل نموذجها التنموي الجديد، أبرز دلالاتها مجمل التوجهيات والقرارات السامية التي شهدها الأسبوع الأخير من شهر مايو 2023، بالإعلان عن مدينة السلطان هيثم كأولى المدن النموذجية التي ترتكز على عنصر الإذكاء والاستدامة، وبالإعلان عن صندوق «عُمان المستقبل» الاستثماري، الذي سيكون ذراعًا استثماريًا تمويليًا يسهم في تمكين بيئة الأعمال وحفز الاستثمار في قطاعات التنويع الاقتصادي، بالإضافة إلى توفير التمويل اللازم لتنافسية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة للمشاركة في الاستثمار الخاص، عوضا عن فتح آفاق جديدة لما يُعرف بمنظومات «الاستثمار الجرئي». وشهد اجتماع مجلس الوزراء برئاسة جلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله - في 31 مايو 2023 كذلك الإعلان عن دعم بعض البعثات الدراسية المخصصة للطلبة في تخصصات المستقبل، والتخصصات التي ترفع تنافسية الاقتصاد المحلي، وفق أطر حوكمة واضحة ومحددة.

إن مجمل التوجيهات والقرارات السامية التي شهدناها خلال الأسبوع الفائت لهي تعبر عن 3 ملامح رئيسية:

أولها: المرحلة الراهنة هي مرحلة توازن بين تعميم الخدمات العامة، والتأكد من جودتها في كل المجالات، إلى مرحلة يتم من خلالها إيجاد نماذج تنموية جديدة للمرحلة، وهي ستكون قواطر أساسية للاقتصاد، وتنمية المجتمع، وحفز عمليات الابتكار والريادة المؤسسية والمجتمعية. وما مدينة السلطان هيثم - التي أكد جلالته أنها ستكون بداية لمُدن ومخططات أخرى مشابهة- إلا نموذج لذلك، في الجانب الآخر فإن التوجيه بإنشاء مركز وطني لصحة المرأة والطفل داخل مدينة السلطان هيثم، يعبر كذلك عن توجه نوعي نحو تخصيص وتجويد الخدمات الصحية.

ثانيها: هناك أطر واضحة لتحقيق مقتضيات النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية جنبا إلى جنب مع حفظ واستدامة منظومات وشبكات الأمان الاجتماعي، وهذا نلحظه أيضا من مجمل التوجيهات بزيادة مخصصات المساعدات السكنية، والخفض المقر على فواتير الكهرباء خلال أشهر الصيف، ودعم إنتاج القمح بما يحقق مقتضيات الأمان الاجتماعية واستدامة شبكاته.

ثالثها: نموذج التنمية في ذاته يركز على دعم العناصر الأساسية المكونة له بشكل مستمر ومتواصل، فالتركيز على دعم بيئة عمل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتحقيق بعض الإعفاءات الخاصة بها، وتوفير التمويل اللازم لأعمالها، والتسهيلات لدخولها واستفادتها من الاستثمارات الكبرى (محور أساس) لهذا النموذج في تشكله خاصة مع سنوات الخطة الخمسية الحالية (العاشرة).

وفي المجمل يمكن القول إن النموذج التنموي الجديد أصبح أكثر اتضاحا في ملامحه المرحلية، ويسخر في الآن ذاته الظروف الاقتصادية الإيجابية لدعم محدداته، وتحقيق العائد الاجتماعي الأمثل لعملياته. ونعتقد أن المرحلة الراهنة أصبحت تشكل مجموعة من الضرورات للاستفادة من هذا الزخم الاقتصادي، ومن بينها ضرورة التركيز على إعداد مجموعة من الخبرات الاقتصادية، في مجالات التحليل الاقتصادي، واستشراف مستقبل الاقتصاد، والاستشارات الاقتصادية. كما أن التسريع بإيجاد السياسة الوطنية للمحتوى المحلي، يضمن تحقيق العوائد الاجتماعية والمحلية المنتظرة من المشروعات التنموية الكبرى، عبر إيجاد الوظائف أو تعمينها، أو ضمان استفادة المشروعات الصغيرة والمتوسطة من حراك المشروعات الكبرى، أو من خلال تعزيز الطلب على المنتجات المحلية في مختلف أشكالها من السلع والخدمات والأيدي العاملة. كما تتطلب المرحلة في تقديرنا كذلك التفكير في الربط والشراكة الاستراتيجية المباشرة بين (مؤسسات التعليم العالي من جامعات وكليات ومعاهد ومراكز تدريب) وبين (التجمعات الاقتصادية المختلفة) سواء المناطق الاقتصادية والحرة، أو الموانئ، أو المشروعات التنموية الكبرى، لضمان أن تكون المهارات والمعارف وخبرات التدريب متسقة مع احتياجات العمل التنموي والحراك الاقتصادي عموما. وفي هذا الصدد يمكن إيجاد (تحالف تجريبي) يجمع عينة من المؤسسات الأكاديمية وعينة من التجمعات الاقتصادية، يقام من خلاله بإعداد إطار وطني للاحتياجات المعرفية والمهارية المباشرة التي يمكن أن تتطلبها هذه التجمعات خلال (5-15) عاما، بحيث تصمم المؤسسات الأكاديمية برامجها وهياكل التمدرس فيها، وبرامج التدريب وفقا لهذا الاحتياج المحدد والمباشر. ولاحقا في حال نجاح هذه التجربة يمكن توزيع هذه التحالفات إما (جغرافيا) أو (قطاعيا). فيكون لدينا على سبيل المثال (تحالف اختصاصات قطاع الطاقة وتحالف اختصاصات الذكاء الاصطناعي). ويمكن أن يكون أولى تلك النماذج هو (مدينة السلطان هيثم)، حيث يتم حصر كل الاحتياجات المعرفية والمهارية التي تتطلبها عمليات إنشاء/ تشغيل المدينة خلال الأعوام المقبلة، وتقوم بعض المؤسسات الأكاديمية بتصميم ومواءمة البرامج وهياكل التمدرس بما يخدم تلك الاحتياجات بشكل مباشر من خلال التنسيق مع الكيان الذي سيعنى بالإشراف المباشر على المدينة وإدارتها.

وفي ظل التوجه نحو تعميم نموذج المدن الذكية/ المستدامة في عدة محافظات ، وحيث إن هذا التوجه ينشط ما يُعرف اليوم بـ «اقتصاديات المدن»، فإننا نأمل أن تأخذ هذه النماذج أيضا دورا لتنشيط ما يُعرف بـ «الاقتصاد الاجتماعي»، الذي تحدثنا عنه في مقالات سابقة عبر هذه المساحة، ويعني إعطاء أدوار اقتصادية لمؤسسات المجتمع المدني في إنشاء وتشغيل وتفعيل المرافق والخدمات العامة، والخدمات التخصصية في هذه المدن، وأن تكون على سبيل المثال في بعض المخططات مرافق تدار عبر مؤسسات المجتمع المدني، أو أن تكون هناك خدمات معينة تؤهل لها بعض الجمعيات والنشطين فيها لتقديمها في مدن المستقبل النموذجية بالمحافظات. وفي المجمل فإننا نعتقد بأن «مدينة السلطان هيثم» تشكل نموذجا ليس فقط لمدينة إسكانية خدمية متكاملة، وإنما هي نواة للتحول في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، نحو تكوين الحواضر التي تعنى بجودة الحياة، وتدمج مفاهيم الاستدامة، وتنشط العمليات الاقتصادية، وتحقق الانتقال نحو مجتمع نوعي متفاعل ومتصل.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان