نظرية التطور وقضية الاختلاف حولها

04 أغسطس 2021
04 أغسطس 2021

لا يزال الحديث عن نظرية التطور والاختلاف حولها، من القضايا التي لاقت نقاشاً وتداولاً بين علماء الطبيعة والأحياء، والفلاسفة الذين ادخلوا هذه النظرية من العلوم الطبيعية ومجالاتها المتعددة ، وحولت من أسسها البيولوجية وهي التي انتقلت منها في الأساس إلى العلوم الفكرية والفلسفية وخاصة المجال الاجتماعي وكما يسمى (علم الاجتماع)، وبدأ اختلاف الآراء حول رأي الدين والأخلاق ، تجاه بعض الآراء حولها إلى مسألة مطلقة في كل شيء في هذا الكون، وهذا جرى منذ ما يزيد على قرنين وإلى الآن، وهذا التحول أربك فكرة التطور التي هي مسألة متعلقة بعالم الأحياء، على وجه الأخص إلى رؤية فلسفية، ثم إلى مسألة اجتماعية ،وكُثر حولها الجدل في العديد من الفلسفات والتيارات الفكرية في رؤى متباينة، ويناقش د. محمد عمارة هذا الإشكال الفكري الذي وقع في بعض فلاسفة ومفكري الغرب والذي كان نتاج مشكلات فكرية تبنتها الكنيسة، وأدت حركة مضادة متعلقة بمخالفة العلم ومنطق الأشياء، فـ:" الحضارة الغربية التي جمّدت كنيستها- عندما هيمنت على الدولة - كل المتغيرات الدنيوية من الواقع المادي إلى الفكر والعلم، ففرضت (الثبات) على ما هو متطور ومتغير بحكم سنن الله في الكون ..هذه الحضارة الغربية التي غالت كنيستها -عندما حكمت- في ( الثبات) على حساب (التغير) جاءت نهضتها؛ وكرد فعل معاكس لتغالي في (التغير) على حساب (الثبات) ..فكان افتقادها وافتقارها إلى (الوسطية) - التي هي أبرز خواصنا الحضارية - السبب في مجيء فلسفة التاريخ (الهجيلية) على هذا النحو الذي جعلها ويجعلها (خصوصية حضارية غربية)، وليست من ( المشترك الإنساني العام )".

وهذا ما برز في مسألة نظرية التطور المعاصرة وحصل الخلاف حولها ، كما ظهرت في العصور المتأخرة، خاصة القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، كما أشرنا إلى ذلك، وسببها الجمود الفكري للقساوسة وعدم قبول المستجدات الحديثة، ورفض أي تغيير فيما أبدته الكنيسة من آراء باعتبار أنها تخالف الدين المسيحي، حيث جعلت كل شيء يتسم بالثبات في الحياة دون تغيير، ووقفوا ضد كل محاولات العلماء للنهضة العلمية ووقوفهم ضد الاختراع إلى حد القتل، وبعد إقصاء الكنيسة عن تدخلاتها في العلم والسياسة، كانت ردة الفعل معاكسة إلى حد التطرف في بعض الآراء التي سنشير إلى بعضها، خاصة فيما يتعلق برأي بالدين في مسائل تتعلق بالتطور العلمي البيولوجي وغيرها من المسائل، وهذا بلا شك كان خاطئا من جانب الكنيسة التي تحالفت مع الإقطاع، فليس في الحياة كل شيء ثابت لا يتغير، فهناك ترابط الثبات مع الحركة في هذا الكون، وليس هناك أيضاً التطور المطلق كما قال بعض الفلاسفة الذين طرحوا مسألة التطور المطلق في جانبه المادي، وإنكار قاعدة الثبات التي تمثل التوازن في حركة الحياة التي في كل ما نراه بين صيرورة، فيها الحركة وفيها الثبات.

ولا شك أن الرؤية الإسلامية، كما جاء في آيات القرآن الكريم، وفي أحاديث نبوية، أن حركة التغير والتطور مسألة بديهية من سنن الكون، وليست اكتشافاً غربياً، ومن هذه السنن الإلهية بدأت الحياة، كما جاء في آية السجدة قال تعالى:(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ﴿7﴾ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ﴿8﴾ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرون). والإشكالية التي طرحها بعض الفلاسفة، أنهم تحدثوا من خلال منطلقات مطلقة تجاه التطور، أن كل ما في هذا الكون يتغير ويتحول، ولا يوجد به ثبات، وأن هؤلاء الفلاسفة عبروا في هذا الرأي وكأن ما قالوه علم لا يقبل الاختلاف ، ويعلق الأستاذ سيد قطب في تفسيره "في ظلال القرآن" على هذه الآية، فيقول:"وهذا النص يشير إلى أطوار النشأة الإنسانية ولا يحددها، فيفيد أن الإنسان مرّ بأطوار مسلسلة، من طين إلى الإنسان، فالطين هو المصدر الأول، أو الطور الأول، والإنسان هو الطور الأخير..

وهي حقيقة نعرفها من القرآن الكريم، ولا نطلب لها مصداقاً من النظريات العلمية التي تبحث عن نشأة الإنسان أو نشأة الأحياء". كما أن مسألة التطور في الكائنات كتب فيها، مثل القزويني مؤلف كتاب (عجائب الحيوانات)، والجاحظ في كتاب(حياة الحيوان)،وابن مسكويه، وكذلك العلامة ابن خلدون، والفخر الرازي، وإخوان الصفاء، وغيرهم من العلماء المسلمين، لكنهم لا يتفقون مع آراء كتاب(أصل الأنواع) وهذا سيكون له حديث آخر.

والواقع أن قضية التطور والتغير، سمة من سمات الحياة، كما أشار القرآن الكريم، لكن الإشكال الذي وقع فيه البعض ممن طرحوا فكرة التطور على إطلاقها، وبأن كل شيء يتغير ويتحول من حال إلى حال، حتى الأخلاق قالوا أنها تتغير مع تغير العصور! مع أن الثوابت مسألة جوهرية في قضايا كثيرة بحركة الحياة، وقوانين التوازن في هذا الكون بارزة، فمثلاً الأصول الإسلامية منذ العصر الأول ثابتة، وكذلك العبادات، وأحكام الحلال والحرام ، لم تتطور وتتغير مع تغير العصور والبيئات ، فهذه من الثوابت التي تخالف التطور المطلق، كما نادى به "هربرت سبنسر" و" تشارلز داروين، وسيكون لنا حديث في هذا الجانب.

ولذلك هذه المسألة التي وضعت من بعض الفلاسفة، اختلف حولها العديد من المفكرين الغربيين وانتقدوا التطور المطلق، ومن هؤلاء العالم الدكتور "كريسي موريسون" الذي اعتبر (أن حقائق الأشياء ثابتة لا تتغير، وإنما الذي يتغير هو الصورة فقط.. لا في الحقائق؛ لأن الحقائق ثابتة لا تتغير، وأن القول بأنه (لا شيء ثابت على الإطلاق) نظرية زائفة". لذلك فإن قانون التطور مع ثبات حقائق في هذا الكون، مسألة بديهية، لا يعارضه الدين الإسلامي، كما أن التوازن في هذا الكون مسألة طبيعية، وهو الترابط الواضح بين الثبات والتطور، ويرى د/ خالد عبد الرحمن العك في بحثه(الفرقان والقرآن) أنه :"من المناقضة لقوانين الوجود والحياة أن يتوقف أحدهما، أو أن ينفصل، ولا أن يستعلي أحدهما ويسيطر، فالثبات والاستقرار هو البقاء، والتطور المستمر هو الفناء، وهناك ترابط بين البقاء والفناء، وبين الحركة والجمود، وبين القديم والجديد، وبين الميت والحيّ ، فالحياة ناجمة عن موت، والحديث منبثق من قديم، والفكر يتطور، ولكنه يظل ثابت الأصول والضوابط والمقومات، وبدون ذلك لا يُعتبر فكراً".

والإشكال الذي وقع فيه البعض من المفكرين الغربيين هو الأحكام التي تنفصل عن رؤية غيبية، مع أن بعضهم ينكر الغيبيات! لكنه يتشبث بأفكاره وكأنها علم لا يجوز دحضه أو مخالفته، مع أنها نظريات وتوقعات خاضعة للصواب والخطأ، وأن بعض العلماء الغربيين المتأخرين ناقضوا الكثير من المسلمات، في مسألة التطور وقضايا عديدة، تم إشاعتها وكأنها اكتشافات علمية كبيرة، وتم نقض الكثير من أسسها، خاصة النظريات التطورية الاجتماعية والنظرية العلموية، خاصة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.. ويرى الأستاذ عباس محمود العقاد في طرحه لقضية التطور، والنظرة المادية لهذه الفكرة فيقول:"ومن الذين ناقشوا قضية التطور المطلق في جانبها المادي، المفكر المعروف عباس محمود العقاد، في كتابه (الإنسان في القرآن)، وهي أن رؤية التطور لدى بعض الماديين، أنهم يكتفون بذكر ظاهرة حركة التطور كما هي، دون أن يعطي العامل المؤثر في هذه حركة فيقول :" فإذا احتاج الفيلسوف المادي إلى القول بالحركة الدائمة، قال إنها عادة المادة في أصل تكوينها، وإذا لزمه القول بالتغير مع الحركة قال إن المادة المتحركة متغيرة بطبيعتها، وإذا لزمه بعد ذلك أن يجعلها متغيرة من البساطة إلى التركيب ومن النقيض إلى النقيض.. فهذا القول عنده هو وصف للواقع وتفسير له في وقت واحد، وكذلك يفسر التقدم والارتقاء وهما يستلزمان الغاية المرسومة والنتيجة المقصودة، ولكن الفيلسوف المادي يحسب أنه فرغ من التفسير بوضع كلمة (الضرورة) ـ الحتمية في الرؤية الماركسية ـ هنا موضع كلمة الغاية المقصودة".

ويستطرد.عباس العقاد في نقده لأقوال الماديين في قضية التطور الذي -كما قالوا- يحدث في كل شيء من هذا القول، ويعتبر هذا من طبيعة هذه المادة؛ لأنها متغيرة وليست ثابتة وهي هكذا موجودة، وهذه ليست مقنعة:"وليس عند الفيلسوف المادي ـ كما يقول العقاد ـ تفسير لهذا التعدد الهائل في ظواهر الكون وأجزائه مع ابتداء تطوره من وقت واحد أو مبدأ واحد، وجريان هذا التطور على مادة واحدة وقوة واحدة. وليس عنده معنى لهذا التقدم أو غاية يتقدم إليها غير انقضاء أجل الكون مرة بعد مرة، كلما انقضت دورة من دوراته الأبدية بين التأخر والتقدم، أو بين الهبوط والارتقاء". وهذا ما جعل بعض الفلاسفة الغربيين المتخصصين في مجال العلوم الحديثة ينتقدون فكرة التطور المطلق، ومن هؤلاء الفيلسوف "كارل بوبر" الذي لم يعتبر قضية التطور علمية لكنه يراها ( ليست نظرية علمية، بل إطار( ميتافيزيقي).. وللحديث بقية