نحن والغرب وقضايا تحتاج إلى فهم

05 أبريل 2023
05 أبريل 2023

منذ قرون مضت وسوء فهم بين العرب والمسلمين والغرب ظلت قائمة مع فترات هدوء وترقب، دون أزمات وتوترات، لكن ظلت النظرة متوجسة بينهما، وهذه غذتها وتداخلت معها أحكام مسبقة بعضها بقيت دون أن تتحول إلى خصام بين الطرفين، وبعضها بقيت سائدة ومتجذرة في الأوساط الدينية والفكرية والسياسية، وهذا حصل قبل إقصاء الكنيسة، إذ كان الجانب الديني، هو المحرك للخلاف في تلك الفترة، وهذا الخلاف ممكن تبريره لوجود آراء متباينة في الأصول الدينية، كما أن هذا الاختلاف الديني هو المغذي لهذا التنافس والصراع بينهما الذي ظل قائما، منذ ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، وانتشاره في العديد من الدول والمناطق التي كانت مقرا للديانة المسيحية، كالشام ومصر والعراق وآسيا الصغرى وغيرها في آسيا وشمال إفريقيا، ومن أحد أسباب ذلك أن الديانة المسيحية والديانة الإسلامية تقومان على التبشير بالدين ونشره في بقاع العالم، وهذا هو مكمن الصراع والخلاف الطويل بينهما، في أغلب مساراته، ولكن هذا ليس هو السبب كله، دون إقصاء أسباب جوهرية أخرى جاءت بعد ذلك، وتقدمت على الأسباب الدينية التي كانت سائدة منذ ما قبل الحروب والنزال بينهما في القرون الغابرة، التي انزاحت مع العصور الحديثة محلها صراعات أخرى مختلفة، مع أن الإسلام اعتبر الديانة المسيحية أقرب مودة للإسلام من خلال القسيسين والرهبان، وهذا ما جاء في القرآن الكريم، كما أن المسلم لا يكتمل إسلامه، إلا بالإيمان بنبوّة السيد المسيح عليه السلام، وحفل هذا في آيات القرآن بوقفات كثيرة فيها من التقدير والاحترام للنبي عيسى وأمه الطاهرة، لكن التنافس لم يتوقف عند حدود هذه المشتركات الإيمانية كأديان سماوية، مع أن الخلاف الذي جرى ويجري، هو نتيجة للقضايا التي حولها آراء متباينة، وهذه مسألة لا يمكن حسمها كونها متعلقة بالأصول بالنسبة للإسلام، والإسلام اعتبر ذلك واقعا قائما، وقد جاء في القرآن (لكم دينكم ولي دين)، مع أن الإسلام يعترف بالديانة المسيحية كديانة سماوية، لكنهم لا يعترفون بدين الإسلام، وهذه المسألة لم تعد ذات مناقشات بين الطرفين.

وفي العصر الحديث ومع تقدم الغرب ونهضته العلمية، سعى الغرب للهيمنة والسيطرة، وبدايات التنافس بين الدول الغربية على العالم الآخر غير الغربي، وهذه الدول تحركت من أجل السيطرة والبحث عن الثروات الكامنة من أجل صناعاتهم الحديثة، وقد تعرف العرب والمسلمون على الغرب بعد دخوله بعض تلك البلدان واستعماره لها، والذي سماها البعض من الباحثين، «بداية الاحتكاك بالحضارة الغربية» والانبهار بإنجازاتها الكبيرة، لكن الغرب له رؤية مختلفة، تجاه العالم الآخر الذي يتناقض معه جغرافيا، خاصة ما بعد عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، وقد شرحنا ذلك في كتابات سابقة عما حدث بعد هذا التغيير وإنهاء سيطرة الفكر الكنسي، بالغرب، إذ يرى أنه جاء من أجل انتشالنا من تخلفنا كوننا متأخرين عنه كثيرا علميا وتكنولوجيا وهذه حقيقة لا يختلف أحد على صحتها، وأن هذا العالم الذي تعرف عليه، وهو في حالة جمود وتخلف وتراجع على كل المستويات، لكن الحقيقة غير ذلك، فهو جاء غازيا وطامعا في الثروات الضخمة الكامنة في أراضي هذه الأمة التي تحتاج إلى استخراجها والاستفادة من مكامنها تحت الأرض وفوقها، والحل هو استعمارهم والسيطرة عليهم وإرغامهم على الإذعان لمطالبه التي تحقق له مآربه الخاصة في سعيه الذي جاء من أجله، لكنه ـ كما قيل لهم ـ أنه يريد أن ينهض بهذا العالم الجديد المختلف عنه في العلم والتكنولوجيا والمدنية الحديثة كما أشرنا آنفا، وسكت عن الهدف الحقيقي، وهو الهدف الذي خطط له مسبقا في تغريب هذه المجتمعات من خلال الترغيب لهذا التوجه، والترهيب الذي يأتي عند الضرورة، إن لم يكن المجال الرحب لمخططاته معوقا، وعندما تستنفد كل طرق الترغيب، يأتي الترهيب تاليا.

ومع أن الغرب الجديد المستعمر عندما جاء بالقوة المسلحة لاحتلال هذه المجتمعات، لم يرفع شعار الدين والقيم المسيحية، فلم يدخل المدخل الديني في اجتياحه للعالم الثالث، كما حصل في راية الصراعات، بل أنه رفع شعار الحريات العامة والديمقراطية ـ مع تقليمها عند الضرورة ـ التي تم تحريكها من المنطلق الاقتصادي وفق رؤية الفيلسوف الشهير» آدم سميث» (دعه يعمل.. دعه يمر)، وهذا جاء كمدخل جديد ونظرة أخرى مختلفة بعدما فشلت الأفكار السابقة، إنما هو الآن غرب مختلف عما كان عليه في القرون الماضية، أصبح لديه توجه ليبرالي رأسمالي «برجماتي»، يرفع لافتة المصالح والمنافع ولا تحركه الميول الدينية، بل إن هذا التوجه ـ بحسب قوله ـ يمارس بالتفاهم والتسامح والعقلانية/ والنظرة المجردة من الأحكام المسبقة! لكن هذا الرأي المعبر عنه بالكلمات الجميلة، لم تكن خالية من الأغراض الخاصة، لكنها مغّلفة بغطاء شفاف لا تخطئه النظرة الفاحصة لعقلية المستعمر وأهدافه بعيدة المدى، ولكن الواقع المعاش يناقض ذلك تماما، ولا توحي من توجهه أن ليس له مرامٍ وأهداف غامضة، وقد عبر عن هذا التوجه د. محمد عابد الجابري في بعض مؤلفاته التي ناقش فيها رؤية الغرب تجاه الآخر، وبالأخص تجاه العرب والمسلمين، فالغرب يرفع شعار الحداثة والتقدم والنهضة لهذه الشعوب التي جاءها مستعمرا، دون أن يظهر الجانب الآخر من هذه الرؤية الحداثية التي لا شك أن له مساعي وضحت بعد ذلك، عندما ثارت عليه الشعوب للتخلص من استعماره البغيض، من هنا يرى الجابري: «لا يمكن فهم العلاقة بين الحداثة الأوروبية وظاهرة الاستعمار إلا باستحضار النظام الفكري الذي طغى في أوروبا خلال القرن التاسع عشر باسم الحداثة وفي إطارها. فباسم العقل والعلم والتقدم، وهي الأسس التي قامت عليها الحداثة الأوروبية في القرن الثامن عشر، برزت في القرن الذي يليه نزعات فكرية تصب كلها في مجرى واحد، هو تكريس فكرة تقدم الإنسان الأوروبي وجدارة أوروبا بالهيمنة على العالم لـ «تمدينه» ونشر «الحضارة» في أرجائه. ومن أهم هذه النزعات: النزعة التاريخية والنزعة التطورية والنزعة العرقية والنزعة العلموية والنزعة الاستشراقية الاستعمارية».

ولا شك أن الأحكام المسبقة لا تزال بين الثقافات المختلفة بين الخمود والبروز وفق الظروف وما يصاحبها، لكن الأمر الأهم في قضية العلاقة الملتبسة بينهما: كيف نفهم بعضنا البعض بعيدا عن التحيزات، ومن الإرث الماضي ومخلفات الصراع والخلاف والحملات المتبادلة؟ ولا شك أن هذا يحتاج من كل الأطراف أن تتجه اتجاها جديدا، وهي النظرة الموضوعية لكل ما مضى وأصبح تاريخا قديما، ولكن هذه الرؤية قد تكون متفائلة كثيرا، وربما ليست مستحيلة، لكنها أيضا ليست سهلة، وتحتاج إلى عقليات بين كل الأطراف تتطلع للمستقبل، والحل الأمثل لإبعاد التوترات القائمة والصراع الفكري والثقافي، وأن يتحقق الإنصاف والعدل في الأحكام والقضايا التي أسهمت في قضايا الخلاف والنزاع. وفي تقييمه لكتاب (أزمة الإسلام) لبرنارد لويس يقول د/ جلال أمين أن لويس:«نادرا ما يستخدم وصف المتطرفين أو الأصوليين، بل يفضل أن يتكلم عن «الإسلام «، أو «العالم الإسلامي»، أو عن «شعوب الإسلام»، أو عن «أعداد لا يستهان بها من المسلمين».. الخ، حتى لا يبقى أي مجال للشك في أن الانطباع النهائي الذي سيترسب في ذهن القارئ لا يتضمن هذا التمييز بين متطرف وغير متطرف، عدواني أو مسالم. وهو يبدأ أحد الفصول، وهو المعنون « ظهور الإرهاب» بعبارة صحيحة تماما هي:«ليس كل المسلمين أصوليين، ومعظم الأصوليين ليسوا إرهابيين». ولكنه يأتي بعد ذلك مباشرة بجملة غير صحيحة بتاتا هي « ولكن معظم الإرهابيين اليوم مسلمون، بل يفاخرون بأنهم مسلمون».

ولا شك أن الحوار الفكري في كل المجتمعات الإنسانية مطلب مهم لمواجهة التعصب غير المنصف تجاه الآخر المختلف، بما يؤسس لفتح آفاق النقاش في قضايا يختلف حولها المفكرون وأصحاب القرار، وهي بالأساس قضايا تحتاج إلى وقت وصبر وصدر رحب، بعيدا عن مخلفات الماضي وجراحاته، وهذه النظرة تلعب دورا إيجابيّا في التغلب على الخلاف الفكري والسياسي الذي مضى، وهو بذلك يفتح الانسداد المغلق على الفكر الأحادي عند البعض، تجاه الأفكار التي تقبل النقاش والحوار، ومن ثم تنفتح آفاق التعدد والتنوع في القضايا الفكرية الخلافية لإيجاد فرص للفهم والتفاهم بين هذه الأطراف، لعل وعسى تنتهي الخلافات والصراعات، أو على الأقل التخفيف منها.