نجاحات ديمقراطية لا يراها أحد

26 نوفمبر 2022
26 نوفمبر 2022

ترجمة: أحمد شافعي -

كثرت الأخبار المقبضة في السنوات الأخيرة عن تراجع الديمقراطية في أنحاء العالم حتى بات من المنطقي أن نتمهل قليلا وننتبه إلى بعض الإشارات الإيجابية ـ التي ربما لم تلق ما تستحقه من الانتباه.

ولا أتكلم هنا عن الهزيمة التي مني بها مرشحون متطرفون أو منكرون للانتخابات في انتخابات التجديد النصفي بالولايات المتحدة الأمريكية، أو خسارة الرئيس المتطرف ومنكر التغير المناخي جاير بولسونارو في البرازيل، وإن تكن هذه وتلك تطورات جديرة بالترحيب. إنما أتكلم عن براعم ديمقراطية خضراء واعدة ربما لم ينتبه لها الكثيرون وسط وابل الأخبار اليومية.

لنبدأ في كينيا، وقد كنت هناك أعمل رئيسا لمكتب واشنطن بوست في أوائل سنوات عقد التسعينيات من القرن الماضي. في سبتمبر، أدى وليم روتو القسم رئيسا بعد حملة انتخابية شاقة وفوز بهامش ضئيل على مرشح المعارضة العتيد الشجاع رايا أودينجا. ادعى أودينجا وجود تجاوزات وزعم أن الانتخابات زورت، لكن فوز روتو حظي بتأييد بالإجماع من المحكمة العليا في كينيا.

كان الأمر الأكثر لفتا للنظر هو أنه على الرغم من بعض التنبؤات بوقوع الفوضى، مضت الانتخابات سلمية إلى حد كبير. وقبل أغلب الكينيين النتيجة وتأكيد المحكمة، وإلى حد كبير، لم يشهد انتقال السلطة وقوع أحداث درامية.

لقد كان العنف العرقي سمة تسم الانتخابات الكينية منذ أن عاد حكم الأحزاب المتعددة في عام 1990، وبلغ ذلك ذروته في صراع دامٍ بعد انتخابات 2007-2008 أدى إلى مصرع ألف ومئتين وتشريد ثلاثمئة ألف. وأدى ذلك الاضطراب الناجم عن إراقة الدماء إلى أن أجرت كينيا سلسلة من الإصلاحات، من قبيل تعزيز القضاء، والمزيد من استعمال التكنولوجيا (بما فيها تسجيل الاقتراع الإحصائي) وتشكيل لجنة انتخابية مستقلة.

أظهرت اللجنة الانتخابية والمحكمة العليا أنيابهما حينما ألغتا انتخابات رئاسية في عام 2017، وفرضتا إعادتها. في العام الحالي شهدت لجنة الانتخابات نزاعات داخلية. ولكن النتائج أحصيت بسرعة وبشفافية، ونجحت المؤسسة، وثبتت الأركان. اتخذت كينيا خطوة مهمة باتجاه التحول إلى ديمقراطية أكثر نضجا، وقدوة تحتاج إليها أفريقيا احتياجا ماسا.

في موضع آخر من القارة، هو السنغال في يوليو الماضي، رفض الناخبون ائتلافا حاكما بأغلبية مطلقة في البرلمان، مرغمين معسكر الحكومة على تشكيل أغلبية بمقعد واحد بدعم من سياسي واحد فاز حزبه بمقعد واحد. وفي أنجولا، عقد حزب الحركة الشعبية لتحرير أنجولا MPLA الحاكم وحزب الوحدة الوطنية لاستقلال أنجولا التام (يونيتا UNITA المعارض ـ وهما خصمان عتيدان منذ الحرب الأهلية التي امتدت طوال عقود ـ أشد انتخاباتهما تنافسية وتقاربا في النتائج على الإطلاق. وقد احتفظ الرئيس جواو لورينسو بالسلطة ولكن بأغلبية متقلصة في البرلمان بعد انتخابات اعتبرت إلى حد كبير حرة ونزيهة.

خلال الوقت الذي قضيته في أفريقيا، شهدت القارة من الانقلابات العسكرية قدر ما شهدت تقريبا من الانتخابات. لكن الآن، حتى الطغاة يحاولون أن يضفوا على حكمهم الشرعية من خلال صناديق الاقتراع بصفة دورية.

وهنا في آسيا، توجه الماليزيون إلى صناديق الاقتراع يوم السبت الماضي لإجراء انتخابات مبكرة لم يفز فيها أي حزب أو ائتلاف بالأغلبية للمرة الأولى منذ استقلال البلد سنة 1957.

واللافت للنظر قبل الانتخابات أن رئيس الوزراء السابق نجيب رزاق ـ الذي كان في يوم من الأيام يعد بمثابة "صانع الملوك" في السياسة الماليزية، كان حبيس السجن. فقد خسر نجيب في يوليو استئنافا نهائيا على إدانته سنة 2020 في جملة من الاتهامات التي وجهت إليه ـ ومنها غسيل أموال وإساءة استعمال للسلطة وما يتعلق بنهب أموال صندوق استثماري تابع للدولة اسمه 1 إم بي دي.

فوجئ الماليزيون، وابتهجوا، بإصدار القضاء حكما على نجيب بالسجن اثني عشر عاما ورفض استئنافه بما جعله أبرز قائد في جنوب آسيا يسجن بسبب الفساد. وكان كثيرون يتوقعون أن يفلت من السجن، ربما من خلال عفو ملكي. فاستهلت إدانته وسجنه حقبة جديدة من القلق في السياسة الماليزية.

في الوقت نفسه، في إندونسيا، سحق الرئيس صاحب الشعبية الكبيرة جوكو (جوكوي) ويدودو في العالم الحالي التكهنات بأنه يتهيأ لتغيير دستور البلد في محاولة للبقاء في السلطة لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات، مثلما أوحى بعض أنصاره. ويتهيأ الآن خلفاء محتملون للانتخابات المقررة في 2024.

قبل أربعة وعشرين عاما، قمت بتغطية حركة مظاهرات شعبية متزايدة في إندونسيا أدت إلى سقوط الدكتاتور العتيد سوهارتو ونظام حكمه المعروف بـ"النظام الجديد". وبعد قرابة ربع القرن، ها هي إندونسيا ـ أكبر بلاد العالم الإسلامية من حيث عدد السكان ـ وقد باتت أكثر الديمقراطيات رسوخا في جنوب شرق آسيا.

في الفلبين، التي عشت فيها خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، فزع الكثيرون في صيف هذا العام من احتمال انتخاب فرديناند ماركوس الابن، نجل الدكتاتور الراحل وحامل اسمه، لمنصب الرئيس. فقد خاض حملة بناء على وعود مبهمة واستراتيجية قائمة على وسائل التواصل الاجتماعي ـ أغلبها يعتمد على فيسبوك وتيكتوك ـ نجحت إلى حد كبير في غسل سوءات تاريخ أسرته في الفساد.

لكن ماركوس فاز بأغلبية ساحقة، والمرشحة الخاسرة ليني روبريدو نائبة الرئيس السابقة تلقت الهزيمة بكرم نفس وقالت لأنصارها "علينا أن نقبل قرار الأغلبية". وكان تقبلها مثالا يحب أن يحتذى في أماكن أخرى، من بينها الولايات المتحدة.

إن صعود الاستبدادية في أرجاء العالم بحاجة إلى مواجهة. لكن لنتمهل لحظة ونعترف ببعض النجاحات الديمقراطية. فالمؤسسات تعمل. والأسس تبقى. والتنبؤات بهلاك الديمقراطية هي في أفضل الحالات متعجلة وسابقة لأوانها.

• كيث بي ريتشبرج مدير مركز الصحافة والدراسات الإعلامية في جامعة هونج كونج. ومراسل سابق لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية.

• عن واشنطن بوست ترجمة خاصة بجريدة عمان