ميلان كونديرا: الجوائز في مكان آخر

19 يوليو 2023
19 يوليو 2023

بين الكثير مما نشر من مقالات وتعليقات إثر وفاة الروائي التشيكي ميلان كونديرا (الأربعاء الثاني عشر من يوليو الجاري)، لفتني ما كتبه الشاعر والمسرحي اللبناني يحيى جابر على صفحته على الفيسبوك « نوبل تخسر كونديرا.. الجوائز في مكان آخر»، بمعنى أن أهم الجوائز الأدبية في العالم، والتي لا تُمنح إلا لكاتب على قيد الحياة، خسرت فرصتها في أن تكون ضمن سجل تاريخ كاتب كبير ومؤثر في تاريخ الرواية في العالم كميلان كونديرا.

الروائي التشيكي، الذي اختار مكرها «الحياة في مكان آخر» بعيدا عن وطنه منذ ثمانية وأربعين عاما، ابتعد عن الأضواء وركن إلى الصمت في السنوات العشر الأخيرة، إنما بعد أن أخذ من الشهرة والأضواء ما جعل منه واحدا من أكثر كتاب القرن العشرين حضورا بين قراء الرواية في العالم، وهي شهرة مستحقة لما تمتعت به رواياته من فرادة في الجمع بين السرد والشعر والتاريخ والفلسفة والموسيقا، وقد ترجم إلى أكثر من أربعين لغة بينها اللغة العربية التي نُقل إليها مجمل نصوصه الروائية والقصصية والنقدية، وأصبح منذ تسعينيات القرن الماضي بين أكثر الروائيين مقروئية في العالم العربي.

وعلى خلاف أسماء أدبية كثر ترشيحها من قبل نقاد ومؤرخي الأدب ومحرري الصحافة الأدبية، وكثرت حولها التكهنات بالفوز بجائزة نوبل للأدب كل عام، على مدى العقدين الماضيين (الشاعر العربي السوري أدونيس على سبيل المثال)، فإن اسم كونديرا بقي، معظم الوقت، خارج دائرة التكهنات، إلا في حالات قليلة، ربما لكونه بين أكثر كتاب العالم استحقاقا لهذه الجائزة، من الذين نأوا بأنفسهم عن تلك الدائرة، وربما لأن مجده الشخصي تجاوز مجد الجائزة ذاتها، رغم ذلك فقد أثيرت التساؤلات، كل عام مع الإعلان عن اسم الحاصل على نوبل، عن الأسباب التي تجعل الأكاديمية السويدية تستبعد روائيا كبيرا كميلان كونديرا؟

ومع غياب أي تفسير مقنع لعدم منح كاتب بحجم صاحب «كتاب الضحك والنسيان» نوبل للأدب، فإن ثمة من رأى أن مواقفه السياسية المبكرة من الحزب الشيوعي في «تشيكوسلوفاكيا» السابقة، ومن النظام الشمولي عموما، ورفضه العودة إلى بلاده بعد سقوط النظام الشيوعي عام 1991، لأن مخاوفه من عودة خريف العسكر والبوليس السري الذي تلى «ربيع براغ» الواعد بالحرية والتغيير عام 1968، وكان كونديرا أحد ناشطي ذلك الربيع، ومؤيدي إصلاحات «الكسندو دوبتشك»، بقيت حاضرة ومؤرقة له، تلك المواقف قد تكون سببا.

لكن المواقف السياسية لكاتب انقلب على تاريخه الشخصي في مرحلة شبابه ويوم كان عضوا نشطا في الحزب الشيوعي، لينحاز إلى الحرية مهما كان الثمن، لا يمكن أن يكون سببا لعدم منحه نوبل، وهي التي مُنحت لكاتب معارض، بالمعني السياسي، انشق على النظام في بلده وهجاه بقسوة وعلو صوت، هو الروسي «ألكسندر سولجنستين» الذي منح الجائزة عام 1970. وقبل سولجنستين بنحو ثلاثين عاما، مُنحت لرئيس حكومة كتب «بعض الشذرات والخواطر الشعرية» والخطابات السياسية عالية النبرة، هو ونستون تشرشل. وبالطبع فإن روائيا عظيما كالكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (نوبل 1982) كان صاحب مواقف سياسية معلنه، بل واتهم بمحاباة بعض الحكام في أمريكا الجنوبية وصمته عن انتهاكاتهم لحرية التعبير أمثال فيديل كاسترو وعمر توريخوس (ماركيز في المقابل هو أعظم من هجا الطغاة في روايته المدهشة «خريف البطريرك»).

وخلال الأعوام الأخيرة فاجأت الأكاديمية السويدية الأوساط الأدبية في العالم باختيار صحفية ومراسلة حربية هي الروسية «سفيتلانا أليكسيفيتش» عام 2015، والمغني الأمريكي «بوب ديلن» عام 2016 ليتوجا بأرفع الجوائز الأدبية في العالم، وهما اللذان لم يقدما لأدب العالم ما يمكن أن يشكل إضافة، وبقيت هذه الأكاديمية تتجاهل ميلان كونديرا.

لكن الكاتب التشيكي، الذي اختار فرنسا منفى ثم وطنا دائما منذ العام 1975، وبعد أن تعرض للملاحقة والمنع من العمل في بلده، وبقي يكتب بلغته الأم معظم أعماله، وبقيت رواياته تتحرك في عوالم ومناخات الوطن، هذا الكاتب الكبير ليس الوحيد من كتاب العالم الكبار الذين خسرت جائزة نوبل في أن تكون ضمن تاريخهم، فقبله تجاهلت لجنة الجائزة روائيين عظماء أمثال «جوزيف كونراد» و «وتوماس هاردي» و «جيمس جويس» و «فرجيينا وولف» و «د. ه . لورنس» و «مارك توين» و «وهنري جيمس» و «ومارسيل بروست»، و»ليف تولستوي» و «خورخي لويس بورخيس، وأمبرتو إيكو»، ولأسباب لا يمكن فهمها، سوى أن لجان الجوائز الأدبية، بما فيها نوبل، تفكر أحيانا بطريقة عبثية، وأن الجوائز تذهب أحيانا إلى مكان آخر غير المكان المفترض أن تذهب إليه.