مواجهة الفقر العالمي

28 يونيو 2022
28 يونيو 2022

الفقر العالمي ظاهرة لا يدرك حجمها كثير من الناس، ولا ينشغل بها أكثر الساسة في الدول المتقدمة، رغم أنها ظاهرة مرعبة، لأنها تكشف عن ظلم بيّن في العدالة العالمية بين أغنياء وفقراء العالم، وعن نقص في الوعي الأخلاقي العام.

حجم الفقر العالمي مخيف: حوالي ربع سكان الكوكب يعيشون في فقر مُدقع، والفقر المدقع -كما يعرفه البنك الدولي- هو عدم وجود دخل كافٍ للوفاء بالاحتياجات الإنسانية الأساسية من أجل ما يكفي من الغذاء، والمياه، والمأوى، والملبس، والمرافق، والعناية الصحية، والتعليم. وتفيد الإحصائيات بأن مليارًا وربع المليار من البشر يعيشون في هذا الفقر المدقع، أي يعيشون على أقل من دولار في اليوم الواحد. وهذا لا يكفي للوفاء بالاحتياجات الأساسية، وهو ما يؤدي إلى عدد هائل في وفيات الأطفال حول العالم. فوفقًا «لصندوق الأمم المتحدة لإغاثة الطفولة» UNICEF يموت ما يقارب 10 ملايين من الأطفال الصغار من الحرمان والفقر وغياب الرعاية الصحية، وما يرتبط بذلك من أمراض، ويمكن أن نضيف على الأقل ثمانية ملايين آخرين من الأطفال الأكبر سنًا والبالغين. يموت الأطفال من جرَّاء الحصبة، والملاريا والإسهال، وهي أمراض لا وجود لها في الأمم المتقدمة، وإن وُجِدَت فإنها غالبًا لا تكون مميتة.

هذا الفقر المدقع ينتشر حول العالم: جنوب آسيا ما زال إقليمًا يحوي أكبر عدد من البشر الذين يعيشون في فقر مُدقِع، بإجمالي 600 مليون شخص، من بينهم 455 مليونا في الهند. وهناك 380 مليونا آخرين من البشر الذين يعيشون في فقر مُدقِع في إقليم جنوب الصحراء الأفريقية. وبقية الفقراء فقرًا مُدقِعا موزعون حول العالم في أمريكا اللاتينية، وشاطئ البحر الكاريبي، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وشرق أوروبا، وآسيا الوسطى.

وفي مقابل هذا الفقر العالمي الذي يسحق حوالي المليار وربع المليار من البشر، هناك حوالي مليار يعيشون في مستوى من الثراء لم يُعرَف أبدًا من قبل إلا في بلاط الملوك والنبلاء، بل إن المجتمعات الثرية بوجه عام تحيا حياة مترفة، وتستهلك ما يفيض عن احتياجاتها، حتى أنها تُلقي في القمامة ببقايا الطعام التي يمكن أن تنقذ حياة ملايين الأطفال الذين يموتون من الجوع حول العالم. وقد كشفت بعض الدراسات الموثوقة عن إهدار الطعام في الولايات المتحدة الأمريكية أن 14% من القمامة المنزلية التي تم جمعها هي طعام صالح تمامًا كان لا يزال في عَبوتِه الأصلية وليس منتهي الصلاحية. وأكثر من نصف هذا الطعام كان جافًا مُعلبًّا أو سلعًا غذائية معلبة تبقى صالحة لفترة طويلة، ووفقًا لهذه الدراسة، فإن 100 مليار دولار من الطعام يتم تبديدها في الولايات المتحدة كل سنة!

هذه الحقائق الصادمة نجدها مطروحة في كتاب الفيلسوف المعاصر بيتر سينجر Peter Singer بعنوان: «الحياة ُالتي يمكنك إنقاذَها» The Life You Can Save (وهو الكتاب الذي قمت بترجمته مؤخرًا إلى العربية). وهي حقائق موثقة من خلال تقارير بحثية ميدانية، ومن خلال تقارير البنك الدولي، والمنظمات الدولية. ولذلك فإن سينجر يتساءل عن دورنا كبشر -أفرادًا ومؤسسات- في مواجهة هذا الفقر العالمي؟ ولكنه باعتباره فيلسوفًا للأخلاق العملية لا يريد أن يقدم لنا مبادئ نظرية عامة: فالأخلاق النظرية -على غرار مذهب كانط- تقول لنا إن الإحسان فضيلة أو واجب أخلاقي وأننا ينبغي دائمًا أن نفعل الواجب من أجل الواجب، ولكنها لا تجيبنا عن أسئلة عملية من قبيل: ما القدر الذي ينبغي أن نُحسِن به إلى فقراء العالم؟ وما وجوه هذا الإحسان؟ وما الجهات التي يمكن أن ندعم مهامها في الإحسان والعون أو نشارك فيها؟ تلك هي المسائل الأساسية التي يحاول سينجر الإجابة عنها بشكل مقنع في كتابه، كما أنه يقدم لنا مقترحًا بالتبرع بنسبة مالية ضئيلة من دخل الأشخاص، تتزايد تصاعديًّا قياسًا على مجمل الدخل، وهو في ذلك ينطلق من فرضية هي أن المنظمات الدولية، مثل: «صندوق الأمم المتحدة لإغاثة الطفولة» UNICEF ومنظمة «أوكسفورد للتخفيف من وطأة المجاعة» OXFAM وكثير من المنظمات الأخرى، هي منظمات تعمل على تقليل الفقر، وعلى إمداد الناس بمياه نظيفة وبالرعاية الصحية الأساسية، وهذه الجهود تقلل من الخسائر البشرية، ولو كانت منظمات الإغاثة لديها المزيد من المال، لأمكنها أن تفعل المزيد، وبذلك يتم إنقاذ حياة المزيد من البشر. وعلى هذا، فإننا من خلال التبرع بقدر ضئيل نسبيًّا من المال، يمكننا إنقاذ حياة طفل ما، فنحن يمكننا إنقاذ حياة طفل من الموت جوعًا بسبب الفقر والجوع والمرض، لو أننا تبرعنا بشيء من المال الذي ننفقه على أشياء لا نحتاج إليها حقًّا، سواء على الشراب أو الوجبات في المطاعم أو شراء الثياب أو ارتياد دور السينما والحفلات الموسيقية أو قضاء العطلات أو شراء السيارات الجديدة أو تجديد المنزل.

ولكننا نريد أن نسأل سينجر عن موقف الدول في هذا الشأن، إذ تُنفق بعض هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة أموالًا طائلة على التسليح، وتجني أرباحًا هائلة من تجارة السلاح، ولا شك في أن تخصيص قدر ضئيل من الميزانية المخصصة لهذا المجال لمصلحة المنظمات الدولية العاملة في مجال العون والإغاثة؛ لا شك في أن هذا يمكن أن يسهم بقوة في مواجهة مشكلة الفقر العالمي.