مهارات المستقبل العاجلة

28 أغسطس 2021
28 أغسطس 2021

يحاول تقرير (مجموعة بوسطن الاستشارية. مستقبل تعليم التكنولوجيا) الصادر عن القمة العالمية للحكومات، الإجابة على السؤال (كيف يمكن للحكومات المساعدة في ردم الهُوة بالمهارات اللازمة للقرن الحادي والعشرين؟)؛ فمن خلال استعراض المهارات اللازمة للألفية والتي يُطلق عليها (المهارات الشخصية والتحليلية غير الروتينية)، يُقدم التقرير تلك التغيرات التي طرأت على منظومة المجتمعات في العالم والتطور الهائل في التكنولوجيا، الذي يستدعي ضرورة إيجاد نماذج جديدة في التعليم.

إن هذه النماذج التي يقترحها التقرير تحت مسمى (مهارات رفيعة المستوى في المنهاج الدراسي) تتطلب قدرات قائمة على التفكير الإبداعي، والقدرة على مواكبة التغيرات، مما يجعل من مهارة (المبادرة) أولى المهارات التي يتطلب على الأجيال اكتسابها؛ ذلك لأنها تقود إلى المهارات الاجتماعية، والتواصلية، والتنظيمية، ومنها إلى تلك المهارات التقنية والتكنولوجية التي تقود إلى الإبداع والابتكار. ولهذا فإن التقرير يقترح في سبيل ردم الهُوة (الاستثمار في التطوير المهني للمعلمين)، و(صياغة المناهج الدراسية لتعزيز التعليم التكنولوجي)، و(دعم تطوير أسواق التكنولوجيا)، و(دعم الآليات المالية المرنة).

ولعل انشغال العالم منذ بداية الألفية بـ(المهارات) اللازمة لمواكبة التغيرات المجتمعية والتنموية، دفعت العديد من الدول إلى الاهتمام بالمهارات التكنولوجية بالتوازي مع المهارات الأساسية التي تؤسس نماذج تعليمية قادرة على تمكين تلك المهارات، ولأن التعليم قد مرَّ خلال جائحة كورونا (كوفيد 19) بالعديد من التحديات والتغيرات، على الرغم من أن هذه الأزمة قد حفَّزت الإبداع والابتكار في قطاع التعليم خاصة في مجال الوسائط، إلاَّ أنه قد أفرز العديد من الإشكالات، خاصة فيما يتعلق بالمهارات التطبيقية.

ولهذا فإن المتابع لتلك المناقشات المتعلقة بمهارات المستقبل والتي عُقِدت قبل عام 2020، قد تغيَّر مسار بعضها أو أصبح تطبيق بعضها الآخر ضروريا وعاجلاً؛ ذلك لأن الجائحة قد غيَّرت في المفاهيم الخاصة بالمستقبل، وبالتالي فإن المهارات الأساسية أصبحت أكثر إلحاحا، مما عظَّم من أهمية (حماية تمويل التعليم) من ناحية، وتطوير أنظمته ونماذج تعلمه المستدامة من ناحية أخرى. لذا فإن منظومة التعليم يجب أن تقوم على خطة شاملة مستدامة، قادرة على ضمان (التعليم الشامل للجميع) – بمصطلح اليونسكو –، وضمان اكتساب مهارات المستقبل المتطورة وفقا للظروف الراهنة.

والحال أن المجتمعات اليوم وهي في طريقها إلى تنفيذ خطط التعافي التنموية، تعتمد على مجموعة من المقومات الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، مستعينة بالكفاءات المهنية. الأمر الذي يعني أن الاعتماد الأساسي في تطوير تلك المقومات على (التعلم) و(الإبداع)، و(المهارات الرقمية والتكنولوجية)، إضافة إلى (القدرة على التكيف)، و(المبادرة)، التي تؤسس للإنتاجية والقيادة. فإذا كنَّا ننظر إلى مهارات المستقبل باعتبارها (مستقبلا) فإن علينا اليوم أن ننظر إليها باعتبارها (واقعا ملحا).

والحق أن سلطنة عُمان قد اعتنت عناية فائقة بـ(مهارات المستقبل) خاصة في مجالات التعليم والتدريب منذ بداية عهد النهضة الحديثة، كما تم اعتماد (الإطار الوطني العماني لمهارات المستقبل) في العام 2021؛ وهو إطار شامل، توازن أهدافه بين المتطلبات الوطنية التي تنشدها رؤية عُمان 2040، وبين متطلبات التنمية المستدامة من ناحية، والتغيرات المجتمعية (الاجتماعية والثقافية والاقتصادية)، والتطورات التكنولوجية، إضافة إلى مستقبل المهن والوظائف والتنافسية العالمية.

ولأن هذا الإطار الوطني قد أُعِّد ليكون (رُؤية) للتربويين والمعنيين بالتعليم في السلطنة "تعينهم على تضمين مهارات المستقبل في المنظومة التعليمية" – بحسب وثيقة الإطار–، فإنه يُعد مرجعا مهما للمنظومة التعليمية (التربوية والأكاديمية)، حيث حدَّد (مهارات المستقبل في سلطنة عمان) وموجهاتها، إضافة إلى متطلبات تضمين هذه المهارات في العملية التعليمية، وآليات تطبيقها وفقا للأطر العالمية. ولذلك فإن منظومة التعليم في السلطنة تسير ضمن رؤية مستقبلية واضحة، وما نحتاجه في هذه المرحلة ليس فقط تطبيق تلك الرؤية، وإنما الإبداع في تنفيذها، بما تتطلبه المرحلة المقبلة.

وعلى الرغم من أن (الإطار الوطني العُماني لمهارات المستقبل) يركِّز على تلك المهارات التي تواكب التطورات الاقتصادية والثورات الصناعية، إلاَّ أن المهارات التي اعتمدها بدءا من المهارات الأساسية، والمهارات التطبيقية، ثم المهارات التقنية، كلها تعتمد على القطاعات التنموية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية؛ حيث تبدأ تلك المهارات بالقدرات اللغوية (العربية والإنجليزية)؛ التي تُعد أحد أهم مؤسسات التنمية الثقافية، كما أن المهارات التطبيقية المرتبطة بالإبداع والابتكار والتفكير الناقد، والتواصل الفاعل، والعمل الجماعي وغيرها، إضافة إلى المهارات التقنية الخاصة بـ(التعامل مع البيانات)، والوسائط الإعلامية؛ كلها مهارات اجتماعية وثقافية وبيئية تنعكس على المنظومة الاقتصادية. ولهذا فإن هذا الإطار يُقدم منظومة تنموية لمهارات المستقبل ستسهم في تحقيق الرؤية الوطنية لمجتمع المعرفة، إذا ما تم فهم تطور مهارات المستقبل وفقا لمتطلبات التغير المجتمعي العُماني.

إن مفهوم (مهارات المستقبل) يتأسس على فكر التطور المجتمعي والتهيؤ لبناء الكفاءات، ولأن الثقافة هي عمق المجتمعات وأساس تشكُّلها، فإن تلك المهارات لا يمكن تحقيقها سوى في (قلب الثقافة)، ولهذا فقد كانت (المعارف والمهارات) ثالث الأبعاد المواضيعية الأربعة لمؤشرات (الثقافة 2030) التي اعتمدتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم (اليونسكو)؛ حيث يوفر هذا البعد – بحسب وثيقة المؤشرات – "إطارا لتقييم مساهمة الثقافة في اكتساب المعارف والمهارات بما في ذلك المعارف المحلية والتنوع الثقافي"؛ فهو بُعد يبحث في تلك النتائج والمؤشرات التي تسهم من خلالها الثقافة في نقل القيم والمعارف والمهارات من ناحية، وتمكين الأجيال الشابة من خلال التعليم والتدريب وإعداد الآليات والسياسات المناسبة لمتطلبات التنمية المستدامة وأولويات مستقبل الثقافة من ناحية أخرى.

إن الكفاءة المهنية التي يعتمد عليها هذا البُعد المواضيعي تقود إلى تعزيز مهارات وكفاءة المجالات الإبداعية، وأنماط الاستهلاك والإنتاج المستدام، مما يُسهم في تشكيل المادة الأصيلة في آفاق الابتكار، والتطوير التقني بما يتناسب وأصالة هذه المادة، وإمكانات تطويرها. الأمر الذي يقتضي إيجاد وسائل تكنولوجية وتطبيقات وبرامج قائمة على مفاهيم التفكير الإبداعي والبحث العلمي، ومرتكزة على الخبرة والكفاءة التقنية، بما يُعظِّم مساهمة الثقافة مع القطاعات التنموية الأخرى في تمكين الشباب من مهارات المستقبل.

إن الثقافة باعتبارها أحد الأبعاد الأساسية في اكتساب المهارات المستقبلية، تُقدم آفاقا واسعة للإبداع والابتكار من خلال التنوع الثقافي الهائل في مجالاتها المختلفة، والذي يُتيح فرصا وإمكانات متنوعة، تُسهم إذا ما تم توظيفها تقنيا في رفد المنظومة الاقتصادية؛ ذلك لأن جل المجالات الثقافية توفر مادة لاكتساب مهارات مستقبلية أساسية أو تطبيقية، كما أن المواهب والقدرات الإبداعية التي يتفرَّد بها القطاع الثقافي توفر مجالا أساسيا لإنتاج مجموعة من الإنتاجات الابتكارية المنافسة، ولهذا فإن تطبيق (الإطار الوطني العماني لمهارات المستقبل) لا يمكن أن تتحقق أهدافه سوى في (قلب الثقافة).

عليه فإن (مهارات المستقبل) العاجلة التي ننشدها تعتمد على تطوير المنظومة التنموية وفق تشاريكية القطاعات من أجل إنتاج مستدام ومنافس عالميا على مستوى الكفاءات الوطنية، بما يضمن المهارات المهنية، وإتاحة فرص العمل الحر، ورفع مستوى الوعي والقدرة على التكيف في الظروف البيئية المختلفة، إضافة إلى التمكين، فلا يمكن أن يكتسب الشباب تلك المهارات دون وجود سياسات تضمن تمكينهم وتوفير البيئة المناسبة لذلك.