من يسد الموج يسد العالم وهذا ما ستثبته أزمة البحر الأحمر

15 يناير 2024
15 يناير 2024

كيم داروتش

ترجمة: أحمد شافعي

استيقظنا جميعًا في صباح يوم الجمعة على نبأ الضربات الجوية الأمريكية البريطانية لليمن. امتلأت شاشات التليفزيونات لدينا بصور لقاذفات القوات الجوية الملكية إذ تقلع في سماء الليل المتوسطية، وانفجارات تبدو عشوائية إذ تضيء لبرهات عابرة آفاقا معتمة عديمة الأسماء وكأنه عرض بطيء للعبة من ألعاب الفيديو. لكن الأمر هنا يتعلق بأهداف استراتيجية، وبشر حقيقيين. فالطيارون البريطانيون والأمريكيون يخاطرون بحياتهم، والقنابل التي تسقط تحتهم تسقط على يمنيين على الأرض.

هذه مجموعة صور مألوفة على نحو يثير القلق، تستدعي من الذاكرة القصف الأمريكي البريطاني الفرنسي لسوريا في عام 2018، والقصف البريطاني الفرنسي لقوات القذافي في ليبيا سنة 2011، وحملة «الصدمة والرعب» في العراق سنة 2003. فكيف انتهت تلك الوقائع؟ ليس على خير كبير. ولكن الواقعة التي لم تحدث لم تنته على خير أيضا: أي الضربات الجوية الأمريكية البريطانية الفرنسية المقترحة بقيادة أوباما لقوات بشار الأسد بعد أن استعمل أسلحة كيميائية على شعبه في عام 2013.

ففي أغسطس من عام 2013، كنت مستشار الأمن الوطني في المملكة المتحدة، وأتذكر بمنتهى الوضوح جلستي في قبو المبنى رقم 10 بشارع داوننج في صباح يوم سبت مشمس، منصتا إلى باراك أوباما في مكالمة هاتفية مع ديفيد كاميرون. كان العرض الأمريكي محدودًا: ضربات جوية «جراحية» لقوات الحكومة السورية، وتجري مساء الأحد بأسرع ما يمكن. ولكن مفتشي الأمم المتحدة كانوا لا يزالون في سوريا، ولم يتسن الوفاء بالموعد المحدد، وظهرت فجوة زمنية أتاحت لمجلس الأمن الوطني ومجلس الوزراء النقاش ثم شاء القدر أن يجري استدعاء البرلمان.

ومثلما سيتبين من السجلات العلنية، توافرت إجراءات سليمة. فقد استغرقت وزارة الدفاع والجيش وقتًا في دراسة خطط الولايات المتحدة وأهدافها وخلصا إلى أن المقترح -خلافًا لحملة الصدمة والرعب- محدود أكثر مما ينبغي، وجراحي أكثر مما ينبغي، ويمثل إشارة للأسد تفتقر إلى الصرامة اللازمة. وقامت وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث بتحليل رد الفعل الدولي المحتمل. وأقام المحامون حجتهم بتوافق العمل مع القانون الدولي. وفي مجلس الأمن الوطني، تحدث وزراء متجهمو الوجوه بالتناوب، فدعم أغلبهم، ولزم اثنان منهم الحياد. كان ذلك هو النقيض لـ«حكم الأريكة» الذي تعرض لكثير من الانتقادات. ومع ذلك، في نهاية المطاف، ما قيمة كل ذلك؟ في مجلس العموم، صوَّت أعضاء البرلمان بما يريح ضمائرهم من دعمهم السابق لغزو العراق في عام 2003 وانتهوا إلى الرفض بفارق ثلاثة عشر صوتا: فكانت تلك هي المرة الأولى التي تخسر فيها الحكومة البريطانية تصويتا على عمل عسكري منذ عام 1782.

بعد أيام قليلة، تخلى أوباما عن خطط الضربات الجوية الأمريكية، واستقر على صفقة تنطوي على وعود سورية بتسليم قدراتها من الأسلحة الكيميائية. وأكد أوباما لاحقًا أن ذلك كان من أفضل القرارات التي اتخذها على الإطلاق: لكن اقرأوا سيرة ديفيد كاميرون لتطّلعوا على رؤية مختلفة اختلافا حادًّا. وفي النهاية انتصرت حكومة الأسد في حربها الأهلية، وكان الثمن دمارًا شاملًا للبلد، في حين وسَّعت روسيا وإيران نفوذهما. ورأى البعض في الواقعة نقطة تحول استراتيجية لم يبرأ منها الغرب قط. وإذن فالسوابق التاريخية محبطة. والتدخلات كانت تسوق القوات الغربية إلى التورط في حروب تبدو بلا نهايات. والتقاعس كان يعني تسليم أرض لأعدائنا والتنازل لهم عن امتيازات. فهل يمكن أن يختلف الحال هذه المرة؟ إن حجة العمل العسكري قوية. فقرابة 15% من التجارة العالمية تمر بالبحر الأحمر. وقد تزعم هجمات الحوثيين أنها تنتقي الشحن المتجه إلى الموانئ الإسرائيلية، لكن الواقع أنها عشوائية وتستهدف كل من يمر. وإرسال سفن الشحن في طريق رأس الرجاء الصالح -وهو أطول كثيرا- يضيف إلى الشحن تكاليف هائلة إذ يقدِّر بيتر صاند -محلل الشحن المقيم في كوبنهاجن- أن كل رحلة تتكلف وقودًا إضافيًا بمليون دولار أمريكي. وهذه التكاليف الإضافية تظهر عند التسوق وتهدِّد بتجدد التضخم في الوقت الذي أوشكت فيه البنوك المركزية أخيرًا أن تسيطر عليه. ومن شأنها أن تؤدي إلى أوجاع اقتصادية على كلا جانبي الأطلنطي.

لقد تراجعت أرقام بايدن جزئيا [في استطلاعات الرأي] بسبب اليأس من الاقتصاد الأمريكي، في حين يواجه حزب المحافظين [في المملكة المتحدة] رياحًا معاكسة قوامها نمو شبه منعدم، وأزمة في تكاليف المعيشة، وتكاليف مرتفعة في الطاقة والرهون العقارية، وتضخم عنيد.

وهل من المؤكد أن تستطيع أكبر قوتين جويتين في العالم التغلب على عشرين ألف مقاتل حوثي؟ حسن، ربما. فالسعوديون والإماراتيون، بطائرات غربية باهظة الثمن، قضوا سبع سنين يحاولون قصف الحوثيين والانتصار عليهم وفشلوا. من المؤكد أن الضربات الجوية الأمريكية والبريطانية سوف تلحق ضررًا كبيرا في قدرات الحوثيين، مدمرة محطات رادار، ومراكز قيادة، وذخيرة من الطائرات المسيرة والصواريخ والمروحيات. لكنها لن تقضي على كل شيء. إذ يبدو أن الإيرانيين مستعدون لتحمل تكاليف إعادة التجهيز بلا حدود. فبعض الأسلحة في هذه الحرب بالذات، من قبيل الطائرات المسيرة والقوارب السريعة الصغيرة، غيرُ باهظة الثمن ويمكن شراؤها بكميات كبيرة. غير أن هذه الأسلحة يمكنها إلحاق أضرار كبيرة لسفن غربية كبيرة وباهظة الثمن: ولا يغيب عنا من تجربة فوكلاندس مدى الدمار الذي قد يلحقه صاروخ واحد. وللولايات المتحدة في الشرق الأوسط والخليج قرابة عشرين سفينة حربية سوف تبلغ تكلفتها المليارات. ويعلم الأمريكيون أن أغلب الشحن الذي يمر في البحر الأحمر وقناة السويس يكون متجها إلى موانئ أوروبية وأمريكية.

كل ذلك يعني أن في هذه العملية مخاطرة كبيرة، وأنها محاطة بالشكوك. غير أن في ما يفعله جو بايدن وريشي سوناك شيئا عتيق الطراز، شبه متحفي. ولعلهما لا يكونان مدركين لذلك، لكنهما في واقع الأمر يقتفيان أثر استراتيجي البحرية الأمريكية العظيم في القرن التاسع عشر ألفريد ثاير ماهان، الذي كتب في عمله المميز «تأثير القوة البحرية على التاريخ» أن «من يَسُد الأمواج يَسُد العالم». ويقفان، فضلا عن ذلك، ممثلين للنظام العالمي القائم منذ ما بعد الحرب [العالمية الثانية]. ولسوف ينتصر القانون الدولي، ولسوف تسود القيم الغربية، ولا بد من الوقوف في وجه الفوضى، وأن يستعاد النظام، وأن تبقى المسارات البحرية مفتوحة. لكن في عصر الشعبوية والطغاة الذي نعيشه، نرى مصيري بايدن وسوناك السياسيين معلقين بخيط. فكلاهما يواجه انتخابات في غضون اثني عشر شهرا. وكلاهما متراجع الأرقام في استطلاعات الرأي. وقد يكون هذا نقطة تحول لأحدهما أو الآخر. وقد يكون النفس الأخير للنظام القديم. ومن جانبي، أرجو أن ينجح التدخل.

كيم داروتش عمل مستشارا للأمن الوطني في المملكة المتحدة بين 2021 و2025 وسفيرا لبريطانيا في الولايات المتحدة بين 2016 و2019