مَن الكاتب؟

26 مارس 2023
26 مارس 2023

هل يمكن للكتابة أن تكون فنّا إذا ما تجاوزنا الفكرة التقليدية في تعريفها بأنها مجرد التوثيق بالحروف المكتوبة التي يستطيعها كل متعلم للأبجدية؟

عُنيَ الكثير من الكتّاب والنقاد بشأن الكتابة في ماهيتها، وسائلها، غاياتها، وتأثيرها، وضمن هذه التساؤلات دار الكثيرون حول تعريف الكاتب فمن هو الكاتب؟ هل يكتفى بالعلم بالكتابة لأن يحمل أحدنا صفة كاتب؟ وهل يمكن نفيها ما استطاع أحدنا الكتابة؟ هل توجد معايير لتصنيف الكتّاب؟

يبدو أن هذه التساؤلات طرحت منذ زمن بعيد، ذلك الزمن الذي كان أهله يتباهون بالفصاحة، ويتبارزون في قدرتهم على تلوين القول وتقديمه بلاغة وتبيانا، لكن بينهم كذلك (مثلما هو بيننا اليوم) من ضاق ذرعا بتعالي أدعياء الكتابة وترفعهم عن واقعهم وعن الناس واعتبار أنفسهم مخلوقات أثيرية لا يمكن أن تحمل صفات العامة، كما لا يمكن أن تتبنى مواقفهم أو همومهم، ومن ذلك ما ذكره ابن قتيبة في مقدمة كتابه «أدب الكاتب» واصفا بعض كتاب عصره بقوله: «يذهب إلى أن لطف الله قد أخرجه عن جملة الناس، وبلغ به علم ما جهلوه، فهو يدعوهم الرعاع والغثاء والغثر، وهو لعمر الله بهذه الصفات أولى، وهي به أليق؛ لأنه جهل وظنّ أن قد علم، فهاتان جهالتان» فمن هو الكاتب الحقيقي؟ وهل يمكن لتعريف واحد أن يحمل وزر هذا المفهوم وفق معايير وصفات متفق عليها مهما تبدلت الأزمان، وتغيرت الظروف؟ هل يمكن اعتماد فكرة الكاتب الساعي لتوثيق التاريخ المخلص لنقل المعرفة كما هي دون زيادة أو نقصان؟ وهل يمكن لأي كاتب ذلك على أي حال مهما اجتهد وحاول؟! هل الكاتب هو ذلك المرتبط بالأرض في واقعيتها وبالناس في تنوع حالاتهم الشعبية، وهمومهم اليومية؟ أم هو ذلك المستقرئ المحلل للواقع المنظّر لتصورات كبرى وحلول مثلى لتغيير الواقع وتجميل اليومي؟ هل ينبغي للكاتب أن يكون سجّلا تاريخيا لواقعه وواقع من سبقوه؟ أن يبقى في كتاباته أسيرا للماضي توثيقا وتحقيقا، تحليلا وربطا، استدعاءّ واقتداءً لا يكاد يخرج عن ذلك قيد أنملة؟ أم هو ذلك الباني على ما تأسس قبله والمفنِّد المحسن التحليل، ذلك الذي يصنع من الماضي صفحة للانطلاق، ومرجعا للفائدة دون أن يعلق في حبائلها للأبد فيخسر يومه في اجترار أمسه المنصرم؟

هل يمكن للمجتمع تقييد الكاتب بحصر إنتاجه ليكون كتابة عضوية خاضعة لمقياس الأثر الذي يصنعه في مجتمعه وقدرته على نقل أفكار مجتمعه وآرائه، ثم دفاعه عنها، وتبريرها والتسويق لها ما أمكن؟ هل يمكن أن يتلبّس كاتب ما هذا النهج عقودا من الزمن متناسيا باقي حقول الكتابة؟ بل وحقول الذات الممكن اعتبارها مادة للكتابة كذلك، حتى في تحولاتها الفكرية والنفسية والسلوكية؟

هل يمكن للمجتمع تشييء الكاتب؟ وهل يمكن للكاتب تشييء الكتابة أو ذاته؟ لماذا ينبغي أن نستنسخ نموذج الكاتب الذي نريد ونكرره؟ أليس في تنوع أدوات الكتابة وتنوع مشارب الأفكار ومعرفة الكتّاب وخبراتهم سبل تقود بالضرورة لتنوعهم واختلافهم؟

ثم ماذا عن اختلافهم؟ أليس في ذلك الاختلاف خيرٌ إذ يجد المتلقي بغيته في هذا أو ذاك، فضلا عما يصنعه ذلك الاختلاف من تداخل فكري وتحفيز معرفي وتبادل للآراء وتكامل للمناهج المختلفة المتنوعة دون أي تحقير من أحدهم للآخر، أو تهميش للمختلف، أو إقصاء للغريب المستجد من الكتّاب؟

تبقى الكتابة بمختلف وسائلها مهما تجددت واستحدثت هي مادة المعرفة في أشكالها المختلفة، توثيقا ونقاشا، تحليلا ومقارنة، أو تحفيزا رائعا لأفكار مبدعة وتصورات نموذجية ساعية لخير الإنسان والمكان معا، ولكل ما سبق تتشكل مسؤولية الكاتب إزاء حرفة الكتابة التي لا يمكن الاستهانة بها، أو تلبسها للتعالي على الناس والتقليل من شأنهم، أو توجيهها سيوفا مسلطة على العقل أو العاطفة فينكمش الإبداع وتتكلّس المشاعر.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية