من الإيلاف إلى بدر.. الخروج من العالم القديم

28 نوفمبر 2021
28 نوفمبر 2021

«معركة بدر الكبرى».. أهم معارك الإسلام الفاصلة، سمّاها القرآن «يوم الفرقان»، ويحتفي بها المسلمون سنوياً في 17 رمضان، وحُقَّ لهم ذلك، فهي لم تضع القاعدة الصلبة لبقاء الإسلام فحسب، وإنما أحدثت تغييراً عالمياً، لقد كانت المنطلق لتحوّل العالم القائم على التوسع الإمبراطوري العسكري، إلى عالم يقوم على الفكرة والمعرفة. لقد كان العالم غير مُبصَر؛ فأحداثه -غالباً- غير مدوّنة، ولم يصلنا منها إلا النذر اليسير، ومعظمها أساطير وملاحم قَدَحَها زند التغني بالأمجاد، وليس رصد الأحداث، في حين.. أن العصر الذي دشنه الإسلام بـ(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)؛ مُبصَر، فقد دوّن كثير من أحداثه. وهذا لا ينفي حصول زيف وتحريف فيها، إلا أن هذا هو واقع التدوين في كل أعصره، وبالمقارنة والتحليل.. يستبان حال المدوَّن.

إن كانت معركة بدر هي الإشارة الأولى لأفول العالم القديم؛ فإن له مقدمات تنبئ بأن النبي محمدا كان موصولا بالقدرة الإلهية، وهذا يضعف الافتراض القائل بأن التحولات التي جرت زمن النبوة المحمدية لم تكن إلا تسلسل أحداث؛ كل حدث منها يملي الحدث الذي يليه دون سابق تدبير. والذي أراه.. أن النبي يملك رؤية كونية للتحول منذ بدء تلقيه الوحي، وهي رؤية لا يمكن فهم تحققها إلا في ظل اتصال متين بين محمد وخالق الكون. أما المقدمات فكثيرة، وأقتصر على المسار المباشر للأحداث، والذي يبدأ من «سورة قريش»، وعندي.. هي ثالث السور نزولاً بعد «الفاتحة» و«الإخلاص»، وجاءت لتمتنّ على أهل مكة بالإيلاف، وتدعوهم لعبادة الله وحده: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

برز قبل البعثة المحمدية قطبان كبيران، احتدم صراعهما للهيمنة على مناطق العالم؛ وهما: فارس المجوسية وبيزنطة الكاثوليكية. وتوجد بينهما الحبشة التي تدين بالنصرانية القائلة بالطبيعة الواحدة للمسيح، مع أديان أخرى وثنية. كما توجد الصين القصيّة التي قامت قوتها على الإنتاج الاقتصادي، وليست الهيمنة العسكرية، فرفدت أسواق العالم بمنتجاتها المتنوعة. بين أركان هذا العالم قام «إيلاف قريش»، و«قريش» من التجمّع، ليس اسم قبيلة لسكان مكة؛ كما شاع بعد حوالي قرن من ظهور الإسلام، وإنما هو حلف ذكي جمع بين الدين والاقتصاد، الدين.. في المنطلق والتأسيس، والاقتصاد.. في العمل والمصلحة، مبتعداً عن الصراعات العسكرية، فكانت مكة بذلك مقر «بيت الله» الذي غدا القِبلة الأولى للعرب، في حين.. خفت بريق بيوت العبادة الأخرى في الجزيرة، حتى انطمس فتلاشت. وإلى قريش ترجع قيادة «رحلة الشتاء والصيف»، التي استطاعت أن تؤَمِّن قوافل التجارة للعالم حينذاك، فعندما كان قطبا العالم يتحاربان، والأيام بينهما دول، كان «إيلاف قريش» هو العلاقة بينهما، بالتبادل التجاري بين هاتين الإمبراطوريتين، وبين المنطقة والصين عبر موانئ عمان واليمن، وكان كذلك يوفر التسامح الديني بين نصرانية الحبشة ومجوسية فارس وكاثوليكية بيزنطة.

من خلال هذه الخارطة العالمية تتضح أهمية الإيلاف. والذي فكّر النبي بأن دخوله في الإسلام هو تحويل لقطاع عريض من العالم إلى دين التوحيد. إن هذا التحويل ليس سهلاً عندما يقتضي تبديل الأساس وهو الدين، فمعنى هذا أنه ينبغي التخلي عن كل العناصر المكوِّنة للإيلاف؛ من المعتقد والثقافة حتى أدوات العمل والقوى المؤثرة، بل الانسلاخ من عالم والولج في آخر، ولذلك.. رفضه القرشيون؛ لأنه يهدد مصالحهم ووجودهم، ويعيد بناء المنطقة على أسس دينية وأخلاقية غير التي كانوا عليها. هذا التخوّف في جانب منه صحيح، وهو إعادة البناء على أسس جديدة، لكنه.. لا يريد نقضاً لسيادة العرب ومرجعيتهم الدينية، بل العكس هو الصحيح. فالعالم وهو على نهاية حقبة آفل نجمها وبداية أخرى منبلج صبحها؛ كان النبي يريد للعرب القيادة؛ بحملهم الدين الجديد مرتكز المرحلة القادمة للبشرية، رفضوا؛ إلا أنه لثقته بالله وبنجاح مشروعه مضى فيما هو بصدده.

النبي محمد.. أحد التجار الذين شملهم الإيلاف، وسبر أبعاده، وعرف أهميته على المستوى العالمي، ولا يريد له أن يتلاشى أمام حركة الزمن، خاصةً.. أنه رأى فيه ظهور عوامل الفساد، فأخذ يبث فيه قيمه الدينية والأخلاقية، فحض على إطعام المساكين والفقراء والإنفاق في سبيل الله، ونهى عن التطفيف في المكاييل والموازين، مع الدعوة إلى توحيد الله والإيمان باليوم الآخر الضامن للالتزام بهذه القيم، ومما نزل في «سورة المطففين»: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

لقد شعر أرباب الإيلاف المكيون بخطورة الدعوة المحمدية عليهم، فأخذوا يضيّقون عليه ويضطهدون أصحابه، فواجه ذلك بتوجيه صدمة لإيلافهم لعلهم ينتبهون، بإرسال بعض أصحابه إلى الحبشة؛ وهي من أهم المستفيدين تجارياً من الإيلاف، فجن جنون المكيين، فمحمد بهذه الخطوة لم يعد داعيةً بالكلام، بل انتقل للعمل على تغيير الإيلاف، الذي كان يوما ما يريد بقاءه وإصلاحه، واستغلاله في نشر دينه وقيمه الجديدة، فأرسلوا إلى الحبشة دهاتهم، فحاولوا في حوارهم مع النجاشي أن يستردوا المهاجرين، قبل أن يؤثِّروا بدعوتهم على من يتصلون به في الحبشة، فيتأثر بهم التجار والساسة، وهم قد خبروا مدى إصرار صحابة محمد على تبليغ دعوتهم، فلم يفلح المكيون في ردهم. ثم حاولوا أن يلعبوا بالورقة الدينية.. بأن هؤلاء أتوا بدين مناقض لدين المسيح بن مريم، ولكنهم فوجئوا بالنجاشي -كان فيما يبدو نسطوريا- يتفق مع معتقد المهاجرين حول المسيح وأمه، فالإسلام.. جاء مُقِرّاً منزلة عيسى الرسالية وأمه الصديقة. إنها ضربة قاصمة للمكيين، وبداية تحول في الموازين، فها هي الحبشة إحدى المستفيدين من الإيلاف تقف مع محمد وأتباعه، مما يعني في المقام نفسه التباعد بين المكيين والحبشة، وهو تباعد سيؤثر مع مرور الأيام.

بفشل مهمة المكيين في رجع المسلمين من الحبشة ازداد غيضهم، وكادوا يبطشون بمحمد وصحبه، فكان النبي أبعد نظراً منهم، فاستطاع أن يكسب الأوس والخزرج في المدينة، وأن يهاجر هو وأصحابه إليها. وهنا تبدأ مرحلة جديدة في مواجهة إيلاف قريش، فأخذ بعد أن استقر في المدينة يترصد قوافلهم العائدة من الشام، حتى ظفر بهم في بدر، وأوقع فيهم هزيمة منكرة، أخذ أمر القرشيين بعدها يتضعضع، فلم يعد بمقدورهم حماية حلفهم، ولا تأمين التبادل التجاري بين الأسواق الدولية، وهذه الضربة الماحقة لم تقتصر على المكيين وحلفائهم من العرب، وإنما قطعت الشريان الواصل بين فارس وبيزنطة، وأخذت خطوط التجارة في الضعف شيئاً فشيئاً، مما هيأ الوضع لانتصار المسلمين عليهما، وظهور القوة الإسلامية الناشئة في المنطقة، لتختم بذلك نظام العالم القديم، ويبدأ نظام جديد عُرف بالعالم الوسيط.

لقد عرضت «سورة الأنفال» مجريات معركة بدر، وسجّلت استبسال النبي وصحبه في هزيمة المكيين، وقد قصرت همم كثير من المفسرين الذين رأوا في هذه المعركة ثأراً للمسلمين من المكيين، عن الوصول إلى المقصد الأسنى للنبي الخاتم. وشطحت آراء الساخطين على النبي والإسلام؛ عندما اعتبر بعضهم معركة بدر من أعمال قطّاع الطرق. وبرأيي.. أنها معركة لتغيير نظام عالمي بأكمله؛ قاده نبي الإسلام بدافع الإيمان بالله ونشر التوحيد، بعد أن رأى أفول الوثنية، وعناد قادة الإيلاف بمعارضة إصلاحه دون هوادة. وهذا لا ينفي أن للمعركة أهدافاً أخرى؛ منها استرداد بعض الحقوق التي سلبها المشركون المسلمين بدفعهم للهجرة من بلادهم، والاستيلاء على أملاكهم.