من أروقة مؤتمر عُمان للقيادة المتجددة

05 ديسمبر 2023
05 ديسمبر 2023

تألقت مسقط كعادتها في استضافة المؤتمر السنوي الثالث عشر للقيادة، والذي أقيم خلال الفترة من 4 - 5 من شهر ديسمبر الجاري، وكان تحت عنوان «مؤتمر عُمان للقيادة المتجددة وفق رؤية عُمان 2040»، تميز المؤتمر بتنوع محاوره وأطروحاته بين جلسات تعريفية قادها المتحدث العالمي الدكتور جون سي ماكسويل، وبين الجلسات الحوارية المركزة، والمساحات المخصصة للأسئلة والمداخلات، وقدم الخبير والمفكر العالمي خلال يومي المؤتمر جرعات دسمة من خلاصة تجاربه وأبحاثه وحكمته في مجال القيادة، وخرج المؤتمر بحصيلة من الدروس المستفادة والقيِّمة، ووضع ركائز راسخة لاستمرار الترابط والتفاعل والتبادل المعرفي، والأهم من هذا كله، فإن المؤتمر قد نجح في رسم الصورة الذهنية المتكاملة للقائد الملهم من جهة، ومن جهة أخرى للممارسات القادرة على إحداث التأثير المبني على النتائج، ومع استضافة شخصية عالمية ملهمة مثل الدكتور ماكسويل، والتفاعل الكبير للحضور من داخل سَلطنة عُمان وخارجها، لا بد من وقفة نسأل فيها أنفسنا تُرى ما هي أهم الأفكار والرؤى التي طرحت على طاولة النقاش، والتي يمكنها أن تضيف القيمة النوعية للقادة الشباب الذين هم عماد الوطن، وعليهم تُعقد الآمال في تحقيق الرؤية الوطنية عُمان 2040؟ دعونا نبدأ من أهداف المؤتمر التي تتمحور حول التعريف بالسمات الأساسية للقيادة الفعّالة، والمستويات الخمسة للقيادة، ومبادئ الوصول لقيادة التأثير، واستراتيجيات القيادة الاستباقية والتكيُّفية، وهذه المحاور جميعها في صميم الرؤية الوطنية عمان 2040 التي ركزت بشكل واضح على محور بناء قيادات المستقبل على مستوى القيادة الإدارية، وكذلك القيادة الفنية والتقنية، وتنفيذ مثل هذه المؤتمرات يخلق الزخم ويذكي الشغف بمواضيع صناعة القيادة الفعّالة وبناء القيادات الشابة المؤهلة عبر منهجيات تشجع التعلم بالممارسة والتطبيق الفعلي، مثل أداة «حلقة النجاح» التي ذكرها الخبير الدكتور ماكسويل والتي تتلخص في تبني حلقة كاملة وتكرارها، وذلك بوضع الفرضيات والأفكار أولا، واختبارها ثم التعلم من الأخطاء والإخفاقات، واقتراح التغييرات والتدخلات المناسبة لتلافي هذه الأخطاء مستقبلا، وبذلك تكتمل الحلقة الأولى لتبدأ دورة ثانية من التعلم والاقتراب من النجاح المأمول شيئا فشيئا، فالقائد ليس شخصا يحمل المؤهلات العلمية والقدرات الإدارية وحسب، ولكنه ذلك المثابر الذي لا يتوقف عن التعلم والتطور واكتساب المهارات، والاستفادة من الأخطاء السابقة ومن تجارب وحكمة الآخرين.

وتأكيدا على ذلك شارك الدكتور ماكسويل واحدا من أسراره في الحفاظ على وتيرة متدفقة للتعلم المستمر، وهي مبادرة تستحق التأمل ودراسة مدى الاستفادة منها بشكل أو بآخر، حيث ذكر أنه غالبا ما يبحث عن الشخصيات الناجحة في مختلف المجالات ويعرض عليهم دعوة لتناول الغداء في جلسة تعلم ومشاركة للمعرفة أسماها غداء دروس القيادة « Leadership learning lunch» وخلال هذه الجلسة يقوم الدكتور ماكسويل بطرح سبعة أسئلة على ضيفه وجميعها أسئلة عميقة وذات مغزى ودلالات تثري حصيلته المعرفية والعلمية، والأسئلة الذهبية هي: ما هي أهم الدروس التي تعلمتها في حياتك وألهمتك الحكمة؟ وكيف شكلت الإخفاقات ملامح حياتك المهنية؟ وما هي المهارات والمعارف التي تقوم بالتركيز عليها خلال هذه الفترة؟ وما هي الكتب والمصادر التي قرأتها وتراها مناسبة لي ومفيدة بأن أقرأها؟ وما هي أبرز التجارب والخبرات التي مررت بها وتنصح الآخرين بالتوقف عندها؟ وما هي الشخصيات الاجتماعية والمهنية التي تقع في نطاق حلقتك الاجتماعية وتجدها مفيدة لتقوية رأس المال الاجتماعي؟ وأخيرا كيف يمكنني أن أضيف القيمة إلى مسيرتك المهنية والحياتية؟ وبهذه الأسئلة السبعة يكتسب الخبير الدولي معلومات تضيف رصيدا جديدا لخبراته المتجددة والمواكبة للتغييرات الديناميكية من حوله.

وهذا يقودنا إلى أهم محاور النقاشات، وهي التعريف بالمستويات الخمسة الرئيسية للقيادة، إذا أشار الخبير الدولي إلى أن الكثير من القادة المستجدين بحاجة ماسة إلى الفهم الواعي بين الفرق الشاسع بين القائد الفعّال والملهم وبين شاغر المنصب الذي يمثل المستوى الأول من القيادة، وهي لا تعدو أن تكون مجرد لقب إداري ويمثل نقطة بداية، ولكنه ليس الموقع الذي يجب أن يبقى فيه القائد فترة طويلة، لأنه في هذا المستوى يكون محاطا بفريق يتبعه إداريا ورسميا بحكم التبعية الإدارية فقط، ولذلك فإن فريقه سيبذل أقل الجهود للوفاء بالالتزامات المهنية، أما المستوى التالي فهو يتشكل عندما يبدأ القائد بالتعلم والاستماع لفريقه وبناء علاقات عمل تحفز الرؤية المشتركة، ثم يأتي مستوى الإدارة القائمة على إنجاز النتائج والتي تعتمد على القيادة بالأمثلة، واستقطاب العقول والقدرات المكافئة لشغف القائد في صناعة النجاحات، وهنا يتبع الفريق قائده بدافع الشغف والرغبة في العمل مع فريق ناجح وقادر على تحقيق الأهداف المنشودة، ثم يأتي المستوى الرابع الذي يتمحور حول القيادة الملهمة التي تضع تطوير الفريق في قلب مهام القائد، وبذلك فإن الفريق يتبع قائده من منطلق الثقة والإيمان المطلق بمصداقية نهج القيادة في بناء روح التطور والتعلم والارتقاء، وأخيرا يبدو المستوى الخامس للقيادة بمثابة قمة الهرم التي يعمل فيها القائد مع فريقه في تناغم وانسجام مثل الإيقاع المتقن الذي تبدو كل حركة فيه ذات قيمة ومغزى، فحين يكون القائد في المقدمة يأخذ دور الموجه للعمل، وحين يكون بجانب فريقه فهو المُمكّن، وأما حين يكون وراء الفريق فهو الداعم له، وهو بذلك مصدر تشجيع وتعزيز للفريق بالزخم الإيجابي في كل موقع.

وتتواصل الدروس القيمة في القيادة، ويتطرق الخبير والمفكر العالمي للسمات المشتركة بين جميع القادة الفاعلين باختلاف بيئاتهم ومستواهم التعليمي وقناعاتهم، فالقائد الناجح يمتلك رصيدا من المهارات القيادية، ومجموعة من القيم والقناعات المهنية التي تجعل من القيادة رسالة نبيلة وسامية وليس عملا إداريا روتينيا، ويلخص ذلك كله في جملة موجزة تؤكد أن كل نجاح أو إخفاق فهو يدور حول القيادة، وهي: Everything rises and falls on leadership وهذه الجملة تحمل بعدا عميقا للقيادات الشابة، ألا وهو قيمة وأهمية النمو والتطوير الذاتي المستمر لبناء المهارات المطلوبة للقيادة الفعّالة، فلا توجد طرق مختصرة لصناعة قائد ناجح مثلما أسماه الخبير «قيادات الميكروويف»، ولكن الطريق إلى تنمية المهارات القيادية يتطلب الالتزام بأساليب التنمية الذاتية المستمرة، مع التفكير في محور إضافة القيمة إلى فريق العمل وإعطائه الأولوية، فالشخص يتقدم في السن بشكل تلقائي وطبيعي، ولكن اكتساب المهارات والحكمة لا يأتي من تلقاء نفسه، لا بد من استثمار الوقت والمصادر التمكينية لأجل تحقيق التطور الذاتي المطلوب لقيادة داعمة ومواكبة لمعايير المرونة والرشاقة الاستراتيجية في عالمنا سريع التغيير.

امتاز مؤتمر عُمان للقيادة المتجددة بالمناقشات المُثرية من خلال جلسات حوارية ضمت قيادات وطنية رائدة من مختلف القطاعات، وتنوعت وانصهرت الأفكار والخبرات والتجارب في بوتقة معرفية جعلت من هذا المؤتمر ملتقى علميا وتاريخيا بكل المقاييس، وهو وإن كان موجها لدعم بناء القيادات الوطنية الشابة، إلا أن محاور المؤتمر أبرزت أهمية الاستفادة من الخبرات القيمة، من مبدا أن العطاء المعرفي ومشاركة التجارب المهنية والإنسانية المفيدة ليس له تاريخ انتهاء أو خط نهاية، فأصحاب المعرفة يمتلكون عصارة الحكمة والخبرة التي يمكن أن تلهم الكفاءات الشابة، وتضيف إليهم القيمة المعرفية التي تساهم في اختزال مراحل التعلم والتطوير، وتمكنهم من مواجهة التحديات والمتغيرات بفكر وأدوات استراتيجية عصرية ومبنية على ما انتهى إليه الآخرون من خبرات سابقة، فالقيادة الفعّالة لا تعني بالضرورة البحث عن مسارات ونماذج مستحدثة كليا، ولكنها تقصد التوظيف الذكي لما اختبره السابقون ونجحوا فيه، ثم إضافة الأبعاد التعزيزية من واقع ما هو متاح من مستجدات الفكر الإداري الحديث.

إن بناء القيادات المتمكنة ليس حلما بعيد المنال، ولكنه هدف يتطلب الإدراك العميق أن الفجوة الفكرية بين عملية شغل منصب إداري وبين القيادة الفعّالة المتحورة حول النتائج له أثره الكبير في رفع احتمالات الإخفاق والبقاء خارج المنافسة، وعلى مر التاريخ لم يحقق الإنجازات الخالدة، إلا القادة الملهمون الذين امتلكوا سمات البعد الاستراتيجي، وحكمة الاحتواء، وصناعة الشغف والتجديد لإنجاح الرؤية المشتركة، وتمكنوا من قيادة التغيير ومعهم عقول وقلوب فرق العمل، فمنهج القيادة لديهم يقوم على مبادئ تمكين العمل الإبداعي والإنجاز التشاركي، وتأسيس القيادات الشابة عبر حلقات متصلة من التوجيه والتجربة والتعلم المستمر، وإتاحة الفرصة لفكر الشباب في قيادة جهود التنمية من منظور ابتكاري ومختلف عن المألوف السائد، فنحن نحصل على النتائج ذاتها إذا كررنا مسارات العمل نفسها، ولكن التغيير الإيجابي مهما كان صغيرا فهو كفيل بفتح آفاق أرحب للازدهار والتطور والتقدم المستدام.