مليارديرات أمريكا ومحاولة إنعاش الصورة الإسرائيلية المنهارة

24 نوفمبر 2025
24 نوفمبر 2025

ترجمة: بدر بن خميس الظفري

في ظلّ تراجع التأييد الشعبي لإسرائيل إلى مستويات تاريخية داخل الولايات المتحدة تسعى النخب الأمريكية إلى إحكام سيطرتها على شركات الإعلام والتكنولوجيا لقمع الانتقادات وإنقاذ سردية تنهار سريعًا.

فقد أظهرت استطلاعات مؤسسة «غالوب» الأمريكية المتخصصة في قياس الرأي العام في يوليو أن 32% فقط من الأمريكيين يؤيدون الحملة الإسرائيلية على غزة مقابل 60% يرفضونها، أي بتراجع بلغ 10 نقاط مئوية مقارنة بشهر سبتمبر العام الماضي. ووفق مركز «بيو» للأبحاث -وهو مركز دراسات أمريكي مستقل-؛ يرى ثلث الأمريكيين البالغين (33%) أن بلادهم تقدّم مساعدات عسكرية «أكثر من اللازم» لإسرائيل، وهي نسبة تفوق من يعتقدون أن الدعم مناسب (23%) أو غير كافٍ (8%).

كما أن غالبية الأمريكيين لديهم نظرة سلبية تجاه إسرائيل، ويعبّرون عن قلق «شديد» أو «بالغ» من الغارات الإسرائيلية التي تقتل المدنيين الفلسطينيين، ومن تفاقم الجوع في غزة.

وأظهر استطلاع «نيويورك تايمز/سيينا» -وهو استطلاع صحفي ـ أكاديمي مشترك بين الصحيفة الأمريكية الشهيرة وجامعة سيينا- أن عدد الأمريكيين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين يفوق قليلًا عدد المتعاطفين مع إسرائيل.

وتزداد أزمة الشعبية الإسرائيلية حدّة بين الشباب؛ إذ لا يدعم العملَ العسكري في غزة سوى 9% من الفئة العمرية 18-34 عامًا. فيما يرى 42% من الفئة 18-29 أن واشنطن تمنح إسرائيل مساعدات عسكرية تفوق الحد مقابل 21% يرونها ملائمة أو قليلة.

ومع ذلك يصرّ سياسيون ومستثمرون أثرياء من هيلاري كلينتون إلى ممولي التكنولوجيا وأعضاء الكونغرس على تفسير هذا التحول بمنصة «تيك توك» للتواصل الاجتماعي، وكأن الشباب الأمريكي عاجز عن إدراك أن إحراق خيام النازحين مرارًا فعل مشين دون الحاجة إلى تطبيقات لمساعدته على التفكير.

ومع تراجع التأييد لإسرائيل -وهو في جوهره تراجع للتأييد للإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط وخارجه- تشنّ الطبقة الحاكمة الأمريكية هجومًا مضادًا عبر تسريع سيطرتها على أدوات الإعلام الكبرى. ففي 25 سبتمبر أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يلزم منصة «تيك توك» للتواصل الاجتماعي بأن تكون أغلبية ملكية المنصة بيد مواطنين أمريكيين إذا أرادت مواصلة العمل داخل الولايات المتحدة. وللتذكير؛ فإن هذا النهج امتداد لسياسة إدارة بايدن التي طالبت أيضًا بوضع التطبيق تحت السيطرة الأمريكية، وتحظى بدعم كلا الحزبين في الكونغرس. ونتيجة لذلك؛ تستعد مجموعة من المستثمرين الأمريكيين بقيادة شركة البرمجيات الأمريكية «أوراكل» للاستحواذ على 65% من «تيك توك».

ستتولى «أوراكل» إدارة عمليات «تيك توك» داخل أمريكا، وتوفير خدمات التخزين السحابي، والحصول على ترخيص للتحكم في خوارزمية التطبيق. ويُعدّ مؤسس «أوراكل» لاري إليسون من أكبر المتبرعين لمنظمة «أصدقاء جيش الدفاع الإسرائيلي»، وهي منظمة أمريكية غير ربحية تدعم الجيش الإسرائيلي فعليًا. وقد صرّح بأنه يشعر «بصلة عاطفية عميقة» مع دولة إسرائيل، وأنّا في إشارة واضحة إلى شركته «سنفعل كل ما بوسعنا لدعم إسرائيل».

وتكرر المشهد ذاته في الإعلام التقليدي؛ ففي أغسطس استحوذت شركة «سكاي دانس» وهي شركة إنتاج إعلامي مملوكة لعائلة إليسون ويمولها لاري إليسون، ويديرها ابنه ديفيد- على استوديو «باراماونت»، وهو استوديو سينمائي أمريكي يمتلك شبكة (سي. بي. إس) وعدداً من القنوات الكابلية.

وعينت باري وايس الكاتبة اليمينية المعروفة بمواقفها المعادية لحرية التعبير وللقضية الفلسطينية رئيسة للتحرير في شبكة الأخبار الأمريكية (سي. بي. إس نيوز). وتوجّه عائلة إليسون أنظارها الآن نحو شركة «وورنر براذرز ديسكفري»، وهي شركة إعلام أمريكية كبرى تملك قنوات مثل (إتش. بي. أو) و(سي. إن. إن).

صحيح أن «تيك توك» يتيح مساحة كبيرة للمحتوى المؤيد لفلسطين، لكن الأمر لا يعني أن مؤسسات مثل قناة (سي. بي. إس) لها تاريخ إيجابي مع القضية الفلسطينية. فالمنصات الإعلامية الأمريكية الكبرى بما فيها (سي. بي. إس) طالما تبنّت تغطية تصبّ في خدمة الأهداف الأمريكية–الإسرائيلية في غرب آسيا.

فعلى سبيل المثال؛ نشر موقع (سي. بي. إس نيوز) خلال العام الماضي 2575 خبرًا عن غزة، لم يرد فيها مصطلح «إبادة جماعية» سوى في 388 مادة فقط. أي أن 15% فقط من تغطية غزة تضمنت كلمة «إبادة» رغم تعدد المصادر الموثوقة التي أكدت أن ما قامت به إسرائيل في القطاع يرقى إلى الإبادة الجماعية.

وهو ما يشكّل نموذجًا لما يسمى «إنكار الإبادة عبر الإغفال»، وهو تشويه إعلامي يسهم في استمرار الجريمة عبر حرمان الجمهور من فهم حقيقة مشاركة حكومتهم في حملة استئصال.

أما قناة (سي. إن. إن) الإخبارية فقد قامت بدور محوري في صنع التأييد العام للعدوان على غزة من خلال تبنّي الرواية الإسرائيلية رسميًا. وما يجري اليوم ليس إلاـ كما في عهد ترامب في معظم الملفات ـ تجريدًا فظًا من الأقنعة؛ حيث تنتقل النخب من الخطاب الديمقراطي المزيّف إلى ممارسة السلطة بشكل مباشر وفجّ.

ومع ذلك؛ فإن الدولة الأمريكية والمليارديرات الذين تخدمهم يعلمون أنهم لا يستطيعون الفوز في معركة الرأي العام حول فلسطين. وهم يدركون أن «مستعمرتهم» في الشرق الأوسط تفقد شرعيتها بسرعة قياسية، وأن محاولاتهم لكتم الأصوات التي تكشف الجرائم الإسرائيلية ـ الأمريكية ليست علامة قوة، بل علامة يأس، وهي محاولات محكوم عليها بالفشل.

فوسائل الإعلام لا تعمل في فراغ، والجماهير ليست أوعية فارغة تملؤها المؤسسات بما تشاء. لن تُستعاد صورة إسرائيل، ولا صورة الطبقة الحاكمة الأمريكية، خصوصًا لدى الأجيال الشابة التي لن تنسى زملاءهم الذين تعرضوا للطرد، أو الحرمان، أو الترحيل القسري.

ولن ينسوا الجامعات التي استدعت قوات مكافحة الشغب ووضعت القناصة فوق المباني لإسكات الطلاب المؤيدين لفلسطين. ولن ينسوا الإعلام الأمريكي الذي كذب عليهم بينما كان الصحفيون الفلسطينيون ينقلون لهم صور الآباء والأمهات الثكالى.

قد يتراجع زخم الحركة العالمية المؤيدة لفلسطين إذا استمر «وقف إطلاق النار» في غزة، لكن البنية التنظيمية التي نشأت بعد 7 أكتوبر لن تختفي. بل إن الكثير من هذه الشبكات يعود إلى ما قبل 2023، وعلى رأسها حركة المقاطعة (بي. دي. إس)، وهي حركة عالمية لمقاطعة إسرائيل تأسست عام 2005، وقد حققت مكاسب ملموسة منذ تأسيسها.

هذه الذاكرة التنظيمية لا يمكن محوها بالضغط الإعلامي، ولا يمكن انتزاع الذكريات التي اكتسبها الجيل الجديد من المناضلين على مدى 20 عامًا من المقاطعة، أو خلال عامين من مقاومة الإبادة المستمرة.

جريجوري شوباك مؤلف كتاب «الرواية الخاطئة: فلسطين وإسرائيل والإعلام»

الترجمة عن ميدل إيست آي