ملاحظات قصيرة على معنى الفضيلة

09 يناير 2024
09 يناير 2024

أقول ملاحظات قصيرة؛ لأنه لا يمكن أن نأتي في مقال قصير على معنى الفضيلة التي هي أساس الأخلاق، والسؤال عن معنى الفضيلة ينتمي إلى فلسفة الأخلاق التي هي فرع من فروع البحث الفلسفي؛ ولذلك فليس في وسعنا في هذا الصدد سوى إبداء بعض الشذرات عن رؤية بعض كبار الفلاسفة لمعنى الفضيلة.

وربما يكون من المناسب هنا أن نبدأ برؤية كبار فلاسفة اليونان، وهي رؤية يكاد يشيع فيها التوحيد بين الفضيلة والمعرفة: فها هو سقراط يذهب إلى القول بأن «الفضيلة علم والرذيلة جهل»، ومعنى ذلك أن الإنسان إذا عرف معنى الخير اتَبعه، وإذا عرف معنى الشر اجتنبه. وقد أثار هذا الرأي حفيظة شوبنهاور حتى إنه أكد مرارًا في فلسفته على أن «الفضيلة لا يمكن أن تُعلَّم». كما أثار قول سقراط هذا سخرية ﭼﺎﻨﻛﻟﭬﻳتش الذي ذهب إلى القول بأن: ما يتطلبه سقراط من الناس لكي يكونوا فضلاء هو أن تكون لهم أذنان يسمعان بها دروسًا تُلقى عليهم في الفضيلة. وها هو أفلاطون يُرجع الشر إلى الشهوات واللذة المرتبطة بالجسم، بينما الخير مرتبط بالعقل ومعرفة المُثل الأخلاقية العليا. ولا شك في أن هذه الرؤية تقوم على احتقار الجسم وتراه سجنًا للنفس، وهي بذلك رؤية غير معقولة تطالب الإنسان بأن يرتفع فوق بشريته، وهي رؤية كان لها تأثير على الزهد والتصوف في العالم الإسلامي. أما أرسطو فقد ذهب إلى أن اللذة في حد ذاتها ليست شرًا بإطلاق، وإلا كان الألم خيرًا. ولكنه في الوقت ذاته رأى أن اللذة تكون شرا حينما يكون هناك إسرافًا في طلبها. ومن هنا يمكن أن نفهم موقف أرسطو الذي يقوم على ما يُسمى بالوسط الذهبي، إذ ذهب إلى القول بأن الفضيلة وسط بين رذيلتين: فالشجاعة وسط بين التهور والجُبن، والكرم وسط بين الإسراف والتقتير، والاعتداد بالنفس وسط بين الغرور والمَسكنة، وهكذا. وقد قيل في الدفاع عن رأي أرسطو هذا إن هذا الوسط لا ينبغي فهمه على أنه وسط حسابي، وإنما هو مسألة تقديرية، فما يعد كرمًا عند فقير يُعد بخلًا عن عند شخص ثري. هذا بلا شك كلام معقول من الناحية النظرية ولكننا عندما نطبقه في حياتنا المعيشة نجد أنه لا يمكن تعميمه على كل حالة؛ فبوسعنا أن نتساءل: ما الوسط بين الحق والباطل، أو بين الصدق والكذب، أو العدل والظلم؟ فليس هناك وسط في مثل هذه الحالات.

وفي العصر الحديث رأى كانط أن المبدأ الأخلاقي لا يحتمل شكًا ولا جدلًا، وهو يستند إلى معايير أساسية، منها إن المبدأ الأخلاقي هو مبدأ عام لا يجوز فيه الاستثناء، ومنها أن المبدأ الأخلاقي ينبغي أن يكون غاية في ذاته بمعنى أن تُعامل الإنسانية في شخصك أو في أي شخص آخر باعتبارها غاية وليست وسيلة (وهو في ذلك يقول: افعل بحيث يكون فعلك غايةً للناس جميعًا)، ومنها أن مناط الأخلاقية يكمن في الإرادة الخيرة. ولكننا حينما نتأمل موقف كانط في مجمله نجده موقفًا نظريًّا متشددًا لا يستوعب الاستثناءات في السلوك الأخلاقي الذي لا يخضع للقواعد الصارمة، ومن ذلك أن المبدأ الأخلاقي عنده ينبغي أن يكون عامًا لا استثناء فيه؛ فالإحسان يكون من أجل الإحسان باعتباره واجبًا أخلاقيًّا لا يتوقف على شيء آخر كالشعور بالشفقة والتعاطف؛ ومكمن الخطأ هنا هو أن السلوك الذي ينبع من الشفقة أو التعاطف قد يكون أنبل وأكثر إنسانية من السلوك الذي يلتزم بالقاعدة الأخلاقية العامة. وكذلك فإن مخالفة القاعدة الأخلاقية للصدق قد يكون جائزًا في مواقف معينة كأن يكذب المرء من أجل اجتناب شر أعظم وتحقيق خير معين: فيجوز للأسير على سبيل المثال أن يكذب، ويجوز للمرء بوجه عام أن يكذب إن كان صدقه سوف يسبب وقيعة بين الأصدقاء والأحباب، وهكذا.

ولقد ذهب هوبز إلى أن الإنسان بطبيعته تحكمه الأنانية، ومن ثم الشر والعدوان على الآخرين؛ فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وهكذا فإن وضع الإنسان في حالة الطبيعة، أي قبل نشأة الدولة والمجتمع المدني، هو حالة حرب الجميع ضد الجميع. ولذلك رأى هوبز أن القانون الذي تحميه الدولة هو الذي يردع الناس عن الأذى والعدوان والظلم، ذلك أن العهود والمواثيق بلا سيف يحميها ليست سوى كلمات.

أما شوبنهاور فقد اتفق مع هوبز في أن الأنانية متأصلة في الطبيعة البشرية، واتفق مع كانط في أن مناط الأخلاقية هي الإرادة الخيرة، ولكنه يرى أن هذه الإرادة الخيرة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال التحرر من الإرادة ذاتها، وهذا الموقف يحتاج إلى شيء من الإيضاح: الإرادة عند شوبنهاور هي إرادة الحياة، وهي قوة عمياء تدفع كل إنسان إلى تحقيق رغباته ومصالحه وتأكيد ذاته، فأن نريد يعني أننا نرغب دائمًا في شيء ما، ولكن الرغبات لا تتوقف ولا تنتهي؛ وهذا هو أصل الأنانية والشر في العالم؛ ومن ثم فإن الأخلاقية تكمن في الشفقة والتعاطف إزاء الآخرين. ولكن الأخلاقية أو التحرر من الإرادة لا تتحقق بشكل تام إلا في حالة الزهد والقداسة. ولقد رأى شوبنهاور أن الفضيلة لا يمكن أن تُعلَّم؛ لأنها تكمن في إرادة المرء المتأصلة في طبيعته أو شخصيته. ولكننا لا يمكن أن نوافق على رأي شوبنهاور الذي يرى أن تمام الأخلاقية تكمن في حياة الزهد، وإلا كنا نطالب الناس بأن يكونوا زهادًا، وهذا يخالف الطبيعة البشرية ذاتها.

وبطبيعة الحال، فإن مواقف الفلاسفة من الأخلاق تتعدد إلى ما لا نهاية، ولكنني أردت أن أتناول فحسب بعض النماذج من مواقف الفلاسفة التي يتبدى فيها الجدل حول مسألة الفضيلة. والرأي عندي في هذه المسألة أن الفضيلة يمكن أن تُعَّلم، لا بالمعنى النظري السقراطي، وإنما بمعنى أن الفضيلة ترتبط بالنشأة والتربية ومجابهة نزعات الأنانية في أنفسنا، ومن ثم فإنها تسعى إلى التعالي على إرادتنا ونوازعنا اللاأخلاقية، وترتبط أيضًا بمعرفتنا بطبيعة الحياة والغاية منها من خلال الفهم والتجربة؛ لكي نحيا في النهاية حياة تليق بإنسانيتنا.