مقياس التعامل مع الآخر.. مهمة صعبة

25 يوليو 2021
25 يوليو 2021

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected]

تشكل العلاقة مع الآخر معضلة مفاهيمية كبيرة لدى الكثيرين منا، وذلك لمجموعة التشابكات التي ترافق مختلف العلاقات مع هذا الآخر، مع أن الجميع يتقاسم مختلف الظروف المعيشية، والاجتماعية، ولو اقتربنا أكثر؛ الأسرية؛ فالعلاقة بالقريب لا تختلف كثيرا عن العلاقة بالبعيد، وهذا ما يبعث على الحيرة، في حقيقة النفس الوجودية التي يحملها كل منا، وهذا من شأنه أن يوجد كثيرا من الإشكاليات، وكثيرا من التعقيدات، ويحول مختلف هذه العلاقات من حالتها اليسر، إلى حالتها العسر، وأتصور أنه لولا كرم الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان بإيداع سر من أسراره وهو النسيان في نفسية هذا الإنسان، لارتكب الكثير من الحماقات في شأن الآخر، ولن تكون هذه العلاقات يرافقها الأمان والصفوة، والمودة، وبذلك تحل نعمة النسيان كإحدى الوسائل المهمة في حياة الإنسان حيث تبرئ العقد، والأحقاد، والضغائن، وتعيد الإنسانية إلى فطرتها الأولى.

لذلك يبدو أن الأمر ليس يسيرا فيما يتعلق بإنشاء العلاقات مع الآخرين، حيث يكتنف ذلك الكثير من التعقيدات، والكثير من الجهد، والكثير من المعاناة، وذلك كله انعكاس إلى أن الآخر لم يكن، ولن يكون صفحة ناصعة البياض، فمجموعة التراكمات من الأحداث، ومن ترسخ الصور النمطية عن الآخر، ومن معايشة الصور الصادمة والمتصادمة؛ كل ذلك يؤرخ لدى النفس البشرية الكثير من القناعات، والتي ليس من السهولة بمكان تجاوزها في لحظة يسيرة، ومن هنا يستلزم الأمر الكثير من المعايشة، والكثير من التجارب، والكثير من الإضافة والحذف، حتى تبدأ النفس تأخذ شيئا من الاطمئنان إلى هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي تبدأ بناءات جديدة من تكوَّن الصور التي تلقى قبولا معقولا من الطرفين حتى تستمر العلاقة، وإلا ستواجه بمصدات الصور النمطية المخزنة في العقل اللا واعي، ولن تلتفت إلى أي صورة تم بناؤها حديثا، فالعودة إلى المربع الأول يبقى الخيار الأسرع للخروج من أي مأزق يمكن أن ينشأ في أي علاقة لا تزال طرية، ومن هنا يفسر تعقيد النفس البشرية، وأنها حمالة أوجه في كثير من انفعالاتها، والكثير من توجهاتها، ومراميها.

تمثل الصورة الذهنية المفتاح الذي يفتتح به للولوج إلى مقياس تقييم الآخرين، ذلك لأنها أول الحاضرين على أفق الذاكرة، ولذلك فعندما تصادف إنسانا ما، سبق أن جمعت بينكما معرفة، أو تعرفه عن طريق ما ينقل عنه «كإحدى الشخصيات العامة» فأول ما يتبادر على هذه الذاكرة أنها تستحضر مجموعة الأقوال والصفات، وهي المختزنة لدى ذاكرتك عن هذا الشخص أو ذاك، ولذلك تظل هناك مسافة ما لا تجازف بتخطيها من أول لحظة للاقتراب منه، حيث تتوارد مجموعة الأقوال والصفات المختزنة عنه، كأول محطة للتعارف، ومن ثم تأتي مجموعة الـ «مخاتلات» من التودد، والحوار، والتعاطي في الأقوال والأفعال، وبالتالي فإن توافق الحاضر الفعلي مع هذه المخزون؛ فذلك يفتح المجال لحوار أكثر أمانا، وأكثر ودا، وإن خالف الواقع جميع المخزون، أو جزء كبير منها، فذلك؛ يقينا؛ سوف يربك فيك قناعاتك التي سبق أن خزنتها عنه، حيث تعيد إنتاج تصورات جديدة، وبذلك تتجاوز مجموعة الصور النمطية، وتستبدلها بصور أخرى تكون صور متوافقة مع واقع الحال، وإعادة الإنتاج هذا يحتاج منك الكثير من الجهد، والوقت، والمعايشة، والالتزام، ومعرفة مجموعة الظروف الفاعلة في مسيرة هذه الشخصية، وإلا سيكون التقييم ناقضا، ومضرا، وغير منصف، يقول الدكتور منصف المرزوقي في كتابه (الرحلة- مذكرات آدمي): «إن أنت لا طفت الأصدقاء عدوه ضعفا وانقلبوا عليك عاجلا أو آجلا، انطلاقا من قناعة لم تفارقهم يوما أنهم أجدر منك بالزعامة، إن انت بطشت بهم انقلبوا أعداء مع كل تبعات الأمر. إن أنت لا طفت الأعداء عدوه ضعفا وانقلبوا عليك سريعا انطلاقا من قناعة لم تفارقهم أنهم أجدر منك بالزعامة. إن أنت بطشت بهم زدتهم عداء على عداء مع كل تبعات الأمر».

تحضر الصفات الفطرية؛ بعضها؛ والمكتسبة؛ بعضها الآخر؛ كأحد أهم العوامل المؤثر في بناء العلاقات القائمة بين الناس، وهنا أيضا تلعب الحكمة والحنكة الفطرية دورها الأكبر في سبيل توجيه، وتصويب مختلف الممارسات التي يقوم بها الفرد، ومعنى هذا فإن استطاع هذا الفرد أن يتحكم في الكثير من هذه النوازع الذاتية في مجمل تعاملاته مع الآخر، فقد كسب رهان التميز في كثير من مجالات التلاقي بينه وبين الآخرين من حوله، وإن هو فشل في ذلك، فيقينا؛ لن تكون حالته العلائقية بالآخرين من حوله علاقة سوية، وسيقابل بالكثير من النقد، ومن الصد، ومن عدم التعاون، ولربما ينقذه أمرا واحدا، وهو أهمية ومستوى المصلحة التي يمثلها بشخصه، وحاجة الآخرين من حوله لها؛ ومن هؤلاء الآخرين سوف ينضم إليهم المنافقون، والمخادعون، والمنتهزون، ومع ذلك ستظل تأثيرات هذه المصلحة موقوته بتحققها، ومحصورة بمجموعة صغيرة جدا، وإذا كانت الصفات المكتسبة يمكن ترويضها إلى حد ما، فإن الصفات الفطرية يبقى الارتباط بها ارتباطا عضويا مطلقا، ولا يمكن تغييره بأي حال من الأحوال، ولذلك قيل في المثل: «قص صبع؛ ولا تغير طبع» فالأحمق يظل أحمقا، والبخيل يظل بخيلا، والنرجسي يظل نرجسيا، والكريم يظل كريما، والطيب يظل طيبا، والمتصالح مع ذاته يظل متصالحا، والودود يظل ودودا، ومن تظهر عليه صفات السمت، والرزانة، والهمة، والمبادرة؛ يظل كذلك أيضا، حتى وإن غربته مجموعة ظروف قاهرة في لحظة؛ سرعان ما يعود إلى ما كان عليه، وما عرف عنه.

تبقى محصلات الخبرة في الحياة مهمة جدا في ترويض السلوك السيئ- إلى حد ما- وفي إعلاء مستوى السلوك الحسن كذلك، ولكنها لن تلغي، بصورة مطلقة كلا التأسيسين لتغيير معادلة التقييم، ولذلك لا ينبغي مطلقا أن تفاجئنا المواقف المفاجأة الصادمة التي تحدث من هذا أو ذاك من الذين تربطنا بهم علاقة ما، فنقول: «أيعقل أن يصدر من فلان هذا التصرف، أو السلوك؟» نعم، يعقل، وبكل تأكيد، سواء هذا التصرف في جانبه السلبي أو جانبه الإيجابي، ومن هنا يقتضي الأمر ترجيح كفة المصلحة العامة، حتى وإن كان من يصدر منه التصرف السيئ ؛ هو سيئ في الأساس، خاصة إذا كانت المحاسبة؛ على سبيل المثال؛ قد تضر بمصلحة أسرته، أو ستتأثر هذه الأسرة بهذا العقاب الذي سوف ينال هذا الفرد لسلوكه المعيب في نظر الآخرين من باب المعنى الجليل الذي تتضمنه الآية الكريمة: (ولا تزروا وازرة وزر أخرى...) – من سورة فاطر؛ الآية (18) لأن مؤثرات النفس الأمارة بالسوء، ستظل ملازمة لكلا الصنفين من الناس، وإذا لم تتوفر المصدات العنيدة لتحجيم هذه النفس في تموضع «الأمارة بالسوء» ستظل تمخر في جدران معززات البناءات الطيبة، حتى تحدث فيها شروخا، ونتوءات، فتشوهها، وتجعلها يبابا صفصفا، لا أمل في إصلاحها، أو هي قابلة للتهشم أكثر وأكثر.

ينبغي التأكيد هنا أيضا على أن الصفات البشرية في فرديتها وفي تجمعها، لا ترتبط ارتباطا عضويا بالمكان، ولا بالدين، ولا باللون، ولا بالعرق، ولا بالمستوى المادي، ولا بالمستوى الثقافي، ولا بالمستوى الاجتماعي، ولا بالنوع البشري، فالوحشية النزقة بين البشر قاسم مشترك في كل الأمكنة، وفي كل الأديان، وفي كل الأعراق، وفي كل المستويات: المادية؛ والثقافية، الاجتماعية؛ وفي وجود كل هذه الفسيفساء على امتداد الكرة الأرضية نجد الخير، ونجد الشر، نجد السلوك الحميد، ونجد السلوك السيئ، نجد الفقر ونجد الغنى، وما يمكن التأكيد عليه في ختام هذه المناقشة، أنه لا مثالية مطلقة في مجمل التعاملات التي نقيمها مع الآخرين، ولا يجب لأي منا أن يرتكز على قناعة بحتمية المثالية في التعاملات، ولا بسيئها المطلق أيضا، وتظل النسبية هي المتسيّدة، فكلنا بشر، بقدر ما نملك من عقل مدبر، فإننا نمتثل كثيرا لعاطفة لا يقل تأثيرها في تغيير دفة الاتجاه، ولكن يمكن التقليل من ذكر المثالب والعيوب، وعدم استحضار التأريخ إن كان سيئا، فلعل في ذلك تخفيفا من وطأة الصدمة إن حصلت في موقف ما.