مغالطات في ترويج الصور الذهنية

05 ديسمبر 2021
05 ديسمبر 2021

ثمة فاصل دقيق بين مفهوم الصورة الذهنية، والصورة النمطية، حيث تأتي الأولى "الذهنية" لتؤسس فكرة جديدة في ذهن المتلقي عن شيء ما، بينما تأتي الثانية "النمطية" لتعمم فكرة معينة عن شيء ما وتلبسها على الجميع، دون أن تترك فرصة الانتقاء للفرد لكي يقرر القبول أو الرفض، كما يحدث في الصورة الذهنية، ومع ذلك تبقى الصورة الذهنية متجددة، ومتحركة، وحيوية التأثير، ويبقى الخوف فقط في المصدر عندما يغالط نفسه فيصدر صورا ذهنية عن واقع غير حقيقي، وعندما تعرف الحقيقة تصبح هناك صدمة، تبقى تأثيراتها ردحا من الزمن.

تكمن خطورة بعض الصور الذهنية أنها تغرق الكثير من الناس في خيال متجاوز لحقيقته، وتغرب الواقع بصورة مبالغ فيها، وتؤسس قناعات لدى المتلقي بحقيقة ما هو غير حقيقي، وبواقعية أشياء غير واقعية، ولذلك فالصور الذهنية العشوائية في كثير منها تتصادم بصورة مباشرة مع الواقع، لأن الواقع يعريها، ويقدمها على حقيقتها التي هي عليها، ولا يتجاوزها بأي حال من الأحوال، وبالتالي فناقل الصورة الذهنية بين أمرين: فإما أن تلامس الواقع وتتحدث عنه حقيقة، وإما أن تكون مجرد "بروباجندا" موجهة، أو أنها محمولة على جناح الافتتان، وفي كلا الأمرين هناك من ينظر إلى الصورة الذهنية بكل الجد، ويضع لها حسابات الربح والخسارة، ومعنى هذا فإن توافقت مع الأول، فإنها بذلك كسبت رهان الاستحقاق بكل ما تعنيه الكلمة، وإن توافقت مع الثاني، فإنها تسجل بذلك إخفاقات كثيرة، وترسخ قناعات أخرى سلبية، فتكرس مبدأ عدم الصدق، وعدم الأمانة، وتضع كل من روج لها موضع الاتهام، وهذه الصورة في حد ذاتها خسارة مضاعفة، لواقع أنت معني به بصورة أو بأخرى، خاصة عندما يتعلق الأمر بأمر وطني شديد الأهمية، وشديدة الحساسية، كحال السياحة، على سبيل المثال، وكحال التعليم، وكحال الصحة، وكحال الخدمات الاجتماعية، ذلك لأن كل هذه الخدمات، ملامسة من قبل الفرد في المجتمع، وبصور مباشرة، لا تحتاج إلى كثير من العناء لتأصيل هويتها عبر هذه الصور الذهنية، ولذلك يخطئ من يظن غير ذلك.

تحتل الصور الذهنية في الذاكرة الشعبية مساحة كبيرة، لصور وأنشطة الناس، ومجموع تفاعلاتهم وتصادماتهم مع بعضهم البعض، وتبقى هذه الصورة مؤثرة تأثيرا مبالغا فيه على درجة كبيرة، حيث تعمل على تحجيم التفاعل، والتنازل، والتسامح، والتعاون، والتواد، والتضحيات، ذلك لأن فلان من الناس قال لي كذا .. أو فلان من الناس كان موقفه كذا .. أو فلان من الناس ذهب إلى فلان وأخبره عنى بكذا .. أو أن الجماعة لم تستشرن في كذا .. أو أن الزملاء في المكتب لم يأتوا لتهنئتي بكذا .. أو تعزيتي في كذا .. وقس على ذلك أمثلة كثيرة، ومتى وجدت هذه الصور الذهنية مساحتها الآمنة في النفوس، تستطيع بذلك أن تؤثر بصورة مباشرة في مختلف أنشطة الفرد، وقد تغالي في هذا التأثير عندما تخلق في نفسية هذا الفرد، أو جماعة معينة، مكونا معنويا من الحقد والعتاب، وعدم الثقة في الآخر، حيث تلبس الحياة عباءة قاتمة، تؤثر بصورة مباشرة في علاقات الناس وتفاعلاتهم بصورة إيجابية.

من الصور الذهنية المتأصلة لدى الجمهور، في كل دول العالم، بلا استثناء، هي صورة المسؤول الحكومي غير المخلص، وغير الأمين، وغير الصادق، وغير الجاد، وغير الحيادي، وقس على ذلك أمثلة كثيرة مما توسم به هذا المسؤول في شخصه، وفي أمانته، وفي صدقه، وفي حقيقته، ويضاف إليه أيضا أعضاء الهيئة البرلمانية، حيث تلصق بهم نفس ذات التصور للموظف الحكومي، بينما الواقع يقول أن في ذلك حقيقة نسبية، وليست مطلقة، وأن ما يظهر لهذا الجمهور من سلوكيات من كلا الطرفين (الحكومي/ البرلماني) لا يخرج عن دائرة الاستثناء، والاستثناء حالة مقبولة، وواقعية، ولا يمكن الخروج عنها وفق قاعدة (90/10%) للدكتور ستيفن كوفي، الذي يرى أن المساحة المتاحة للفرد لكل اشتغالاته، وانفعالاته هي (90%) بينما ما هو مفروض عليه، حيث تلزمه مجموعة الأوامر والنواهي لا تخرج عن الـ(10%) فقط، إذن ما دام الأمر كذلك فمن منا لا يخطئ في هذه المساحة الـ(90%)؟ ولا أتصور أن هناك من لا يعي هذه الحقيقة، ولكن لأن الصورة الذهنية المترسبة في الذاكرة عن هاتين الفئتين من أبناء المجتمع، لن تشفع كل التبريرات التي تقال، وهذه مسألة ثقافية متجذرة في نفوس أبناء المجتمعات، مع أن أبناء هذه المجتمعات هم من يمثلون هذه الفئات بكل تجلياتها، وكأن الأمر أن الفرد يتهم نفسه، لأن الجميع تقريبا مر بالوظيفة الحكومية، والكثيرون أيضا مروا بالتجربة البرلمانية، ولذلك تظل الصورة الذهنية إشكالية موضوعية في تأصيل القناعات، وفي الحكم على النتائج لكل فرد.

حرصت بعض الثقافات لدى بعض المجتمعات على تجسيد الصور والحيوانات، والمفاهيم التقليدية كالعبيثة، وتسلط الجان، والأماكن المهجورة، والكهوف، وكل من له الصفة القبضية كالشرطة، وتوظيفها التوظيف السيء لزعزعة الثقة في نفوس الأطفال، على سبيل المثال، وذلك بهدف ترويض الطفل لكي ينصاع لكل الأوامر والنواهي، دون أن تترك له فرصة التعبير عن رأيه أو موقفه، والمغالطة هنا أكثر، أن ما يظهره الطفل من مواقف أو عدم اقتناع بما يملى عليه على أنه عناد مبالغ فيه، وهذا الأمر ليس صحيحا إطلاقا، والمخيف في المسألة أكثر، ليس مجابهة الطفل وتطويعه لما يريده الكبار منه، ولكن زرع الصور الذهنية في ذاكرته، وهي المتمثلة في المثلات (العقوبة والتنكيل) الناتجة عن مجموعة الأوهام التي سوف يتخيلها الطفل، وتظل في ذاكرته إلى أن يبدأ يستوعب هذه الصور، ويزيلها شيئا فشيئا من ذاكرته، ولذلك، ونتيجة لترسخ هذه الصور الذهنية وتوظيفها هذا التوظيف المخل، فإن الأجيال تتناقلها، وتوظفها نفس هذا التوظيف على حرص عليه من كان قبلهم، وهذه إشكالية موضوعية في ثقافة الشعوب، وهي ذات الصورة، أو الفعل عندما يستعان بـ "المنجمين" لمعرفة حقيقة الأشياء، كالأمراض، وجلب المحبة، أو الإساءة إلى شخص ما، وغيرها من السلوكيات المعوجّة، لأنه من ضمن إشكاليات الصور الذهنية أنه ليس يسيرا إلغائها بجرة قلم، كما يقال، لأن النفس تشربتها، وأصبحت شيئا من مكوناتها العضوية، وبالتالي وحتى يتم إلغائها تحتاج إلى كثير من الزمن، وقد تصل المسألة إلى مرحلة "غسيل دماغ" بينما كان أدخالها في الدماغ وترسيخها من أسهل ما يكون، وهنا تكمن خطورتها أكثر.

تسهل وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تصدير الصور الذهنية عن أي شيء يمكن أن يخطر على البال، حيث يكثر الترويج لأشياء كثيرة في الحياة، سواء المتعلقة بالحاجيات الشخصية للفرد، أو المتعلقة بالموضوعات العامة للمجتمع، حيث تسافر هذه الصور إلى أي مكان يمكن توقعه، وبسرعة البرق، وهذه الصور قد تكون إيجابية، وقد تكون سلبية، وهنا تعتمد المسألة كثيرا على صاحب الرسالة، إن كان واعيا لهدف الرسالة أم لا، فإن كان واعيا، فدرجة الخطورة تختلف، حيث تحكمها نسبية الهدف الذي وضعه صاحب الرسالة، وإن كان غير واع فدرجة الخطورة تكون مفرطة وعلى درجة كبيرة من الخطورة، لأن بعض هذه الصورة تتعلق بالأمن العام والأمن الاجتماعي، والأمن الاقتصادي، والأمن الثقافي، وبالتالي فالمتلقي تصله المعلومة على "كف من ذهب"وبالتالي يمكن البناء عليها، أو جس النبض من خلالها لبناء الأهداف والاستراتيجيات.

تحرص الوسيلة الإعلانية على ترويج الصور الذهنية لأي منتج كان، على تكرراه بصورة مستمرة، حتى تطمئن على ترسخها في ذاكرة المتلقي، ويمكن قياس هذه الترسيخ أو الاستيعاب من خلال إقبال المتلقي على شراء هذا المنتج أو ذاك، وهذا الأمر، وإن كان في ظاهر أمر مشروع، إلا أن خطورته السلبية على الذاكرة المحتضنة لصورة هذا المنتج دون غيره، لفترة زمنية قد تطول كثيرا، مما يؤثر على الإقدام على شراء منتج آخر أكثر جودة، وأكثر فاعلية، وأكثر حداثة، ولكن لأن الصورة المختزنة في الذاكرة لا تزال معمرة، ومسيطرة على مختلف أنشطة هذا الفرد، فلن يحدث أي تغيير، إلا من خلال جيل آخر يختزن صورا مغايرة، عما كان عليه من كان قبله، هنا، يمكن أن تحدث حلحة في القناعات قد تؤدي إلى زحزحة في المواقف ويحدث التغيير، ولكن بعد جهد جهيد، فالمسألة ليس سهلة إطلاقا.