معرض مسقط للكتاب والدور الفكري والثقافي المطلوب

06 مارس 2024
06 مارس 2024

منذ أن تأسس معرض مسقط الدولي للكتاب، الذي انتهت نشاطاته منذ عدة أيام، لم تفتني فعالياته من ثمانية وعشرين عامًا، سواء تمت دعوتي للحضور للمعرض أم لم تتم، ولذلك فإن حضوري سنويا، بحمد الله أصبح مسألة لا تقبل التهاون في هذه التظاهرة الفكرية والثقافية، وحضور بعض الندوات والمحاضرات والجلسات الفكرية والثقافية الخاصة مع الكتاب والناشرين، وبعض دور النشر المشاركة بالمعرض، ولا شك أن هذه الرغبة في اقتناء الكتاب والحرص على القراءة والاستزادة من المعرفة من خلال الكتب، لازمتني منذ الطفولة، عندما كان للوالد -رحمه الله- مكتبة في منزلنا بمدينة صلالة، وكانت تتنوع بين الأدب والشعر والفكر الإسلامي، وهي التي دفعتني، أو على الأصح رغّبتني في القراءة من تلك الفترة، وعندما سافرت للدراسة إلى مصر الكنانة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كنت أحرص على زيارة معرض القاهرة الدولي للكتاب، مع بعض الزملاء الذين لهم اهتمام بالكتاب سواء من أجل زيادة المعرفة في تخصصاتهم الدراسية أو للقراءة المستمرة خارج التخصص، وكذلك بعض المعارض المصرية في بعض الأقاليم إلى جانب معرض الكتاب الذي يقيمه نادي الطلبة العمانيين بالقاهرة في مقر النادي سنويًا في أغلب الأحيان.

ومعرض مسقط الكتاب يزداد فيه الحضور من دور النشر في كل عام، وربما هذا العام كان متميزًا عن السنوات الماضية في عدد مشاركات دور النشر من دول مختلفة، والتي تراجع بعضها بسبب وباء كورونا في الأعوام الثلاثة قبل الماضية، وهذا الحضور الكبير يدل على الإقبال على الكتاب، على الرغم مما يقال من البعض عن غلاء الأسعار، ويرد فيه الناشرون أن ظروفا سياسية واقتصادية، أثرت على الارتفاع الطفيف عند بعض دور النشر وليس جميعها بسبب ارتفاع سعر الأوراق إلى أسباب التوترات والحروب في بعض الدول، لكنني كنت أقول إن هذا الإقبال على المعرض يدل دلالةً أن الكتاب لا يزال حيًا وقادرًا على التأثير في هذا الحضور، على الرغم من منافسة وسائل التواصل، وتطورات التقنيات الحديثة على الكثير من الجمهور، خاصة فئة الشباب من الجنسين، فلاحظت أن جمهورًا لا بأس به من الشباب كان حاضرًا في كل الأجنحة بالمعرض، وهذا يعزز بلا شك أن هناك تغيرًا لافتًا من الشباب في نظرة الشباب للكتاب، من خلال حضوره لمعارض الكتاب بهذه الكثافة، وهذا ما ينبغي تشجيع الآباء للأبناء على الحضور الدائم لمعرض الكتاب حتى لو لم يشترِ إلا كتابا واحدا، فهو الذي سيكون تأثيره مهمًا وقويًا في المعارف المختلفة، وهذه هي الفائدة التي ينبغي ألا تفوت على الأسر العمانية والعربية عموما في التزود من المعرفة عن طريق القراءة، حتى ولو كانت اهتماماتهم علمية بحتة، فالمعرفة الفكرية لها تأثير على الإبداع من خلال تفتح العقول بالقراءة في كل المعارف.

فمنذ سنوات يعتقد أنه مع التطورات التكنولوجية والتسارع العلمي في وسائل التواصل الاجتماعي سيقلل من الإقبال على الكتاب المطبوع، على اعتبار أن تقنيات الاتصال سوف تستحوذ على الاهتمام بشغف كبير، وستتراجع قيمة الكتاب الورقي مع الثورة المعلوماتية الرهيبة في وقتنا الراهن، ولا تزال في تطورات مستمرة، لكني أعتقد أن الكتاب سيظل حيًا رغم جاذبية الوسائل التقنية الأخرى.. وهذه النظرة كانت تتوقع، أنه مع تسارع التطور الحديث في التقنية العلمية والثورة الهائلة في مجال المعلومات، فإن الكتاب سيتراجع، لكن ذلك ليس دقيقًا بالمرة، فلا يزال الكتاب يلقى التجاوب والانجذاب، كمنافس عنيد في مواجهة هذه التحولات في وسائل التواصل والتقنيات الحديثة المتسارعة. ويجب ألا يغيب عن بال المرء أن التقدم العلمي والتكنولوجي والاكتشافات الحديثة المستمرة، التي لا تزال في زخم التطور والتقدم في كل مجالات التقنيات الجديدة، ما هي إلا نتيجة من نتائج الكتاب، وثمرة من ثمرات الاهتمام به، سواء الكتاب المعرفي الأدبي، أو الكتاب العلمي التخصصي، كما أن من ثمار القراءة الدائمة في المعرفة الإنسانية بصفة عامة فتح الآفاق أمام العقول في الإبداع والابتكار.

لكن الاستخدام الأمثل والإيجابي، لهذه الاكتشافات العلمية والتكنولوجية ـ كما يقول د. محمد البنهاوي ـ «يتطلب قدرًا أعلى من المعرفة ورؤية أوسع من جانب الأفراد. من هنا اهتمام المجتمعات بتعليم وتثقيف الأفراد لمواكبة التطور الحضاري، ويومًا بعد يوم تزداد الحاجة إلى توطيد العلاقات بين الأمم وتشجيع التبادل الثقافي والفكري وتزداد الحاجة معها أيضًا إلى القراءة نتيجة الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية المتوالية».

ومن هنا يأتي اهتمام الدولة بأهمية دور معارض الكتاب وتأثيرها في المجتمع علميًا وأدبيًا ومعرفيًا، ولعل إقامة معرض مسقط للكتاب سنويًا، بصورة دائمة وثابتة يعد بلا شك من الرؤى الثاقبة الداعمة للكتاب التي توليها الجهات المعنية، باعتباره أداة مكملة للجهود الرامية إلى التعليم المستمر ورفع المستويات الحضارية والفكرية بين الأجيال، فكم من الناس حرموا من فرص التعليم العالي، ولكنهم بمثابرتهم على القراءة المنظمة بلغوا قمم الثقافة واكتسبوا معرفة واسعة ميّزتهم عن معاصريهم، ويعتبر المفكر عباس محمود العقاد نموذجًا.. فالقراءة المستمرة والدائمة، تعتبر بدون شك أهم وسائل تكوين ودعم الوعي الاجتماعي بين أفراد المجتمع، سواء الفكرية، أو العلمية، أو الأخلاقية أو قيم الإنسان المعاصر، حيث أصبح الكتاب أداة مكملة للجهود المبذولة للتعليم المستمر -كما أشرنا آنفًاـ ورفع المستوى الفكري والحضاري، من خلال المعرفة والمهارات المختلفة، وتسهم في الإبداع والابتكار والنبوغ من خلال القراءة ومتابعة كل جديد في عالم المعرفة على مستوى الأمة كلها، والاستخدام الأكمل والأمثل للكتب، باعتبارها من أكثر وأفضل وسائل التأثير على العقل الإنساني. أما مسألة حرية الاختيار في القراءة ومجالات المعرفة، فهي تخضع للتوجهات الفكرية والسياسية والعلمية، لكل فرد من الأفراد، ولا يمنع أن يكون للأسرة أو المعلم أو المفكر في مجتمعه الدور الإيجابي في الترشيد والتوجيه في اختيار القراءة، بما يسهم في خالق الوعي، شريطة أن يكون هذا التوجيه ملائمًا لرغبة الشباب وميولهم التخصصية، لمرحلة ما بعد الدراسة العامة.

فالقراءة كما تقول شبهي إدريس: «تلعب دورًا مركزيًا في تطوير القدرة على التواصل والتحليل وإنتاج مجتمع متحضر وواع بمسؤولياته. مجتمع مثقف ومدمن شر إدمان على أكل صفحات الكتب وملء خزّانه المعرفي بالمعلومات، والانفتاح على ثقافات أخرى من شأنها العلو بالإنسان الذي سيصبح بدون شك قادرا ومؤهلا للانخراط في دينامية المجتمع، وفي تقدمه وفي حركيته وصيرورتها. للأسف نفتقد في زماننا، عصر السرعة والعولمة والهواتف الذكية النقالة التي غزت أسواقنا وبيوتنا لنخبة من أهل الفكر والثقافة، نخبة أضحت نادرة كندرة الماء في صحراء خالية، نخبة قادرة على خلق تغير جذري من شأنه محو الأمية والجهل المتفشي بشكل مهول ومحو تلك الصورة القاتمة، الصورة الواقعية السوداوية حول القراءة، بالفعل ثقافة مجتمع أصبحت متدنية مستوياتها». ولذلك فإن هذا مؤشر أن الإبداع العماني في الجيل الجديد، والجيل الذي سبقه متابعًا لكل جديد في عالم المعرفة، وأصبح يلفت الجميع في الوطن العربي من خلال وجوده وحضوره المكثف في أغلب المعارض العربية، وهذا ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أنَّ لا معرفة دون قراءة، ولا تقدم دون علم، ولا علم دون أن يكون الكتاب حاضرًا في المقدمة، قبل أي أحاديث أخرى تحرك الساكن الفكري والثقافي، ومن هنا أرى أن الكتاب تتقدم أهميته، مع عمق وإبداع الكاتب نفسه، وليس هذا محصورًا في دور نشر بعينها، لكن الأبرز في معرض هذا العام، تواجد دور النشر والمكتبات العمانية بصورة كبيرة ومتزايدة عن الأعوام الماضية مع الإقبال الكبير على معروضاتها.

إن إقامة المعارض الدورية للكتاب خطوة إيجابية ومهمة في هذه المرحلة التي نعيشها في هذا المجتمع، حيث غدت القراءة ركيزةً ثقافيةً في حياة المجتمعات المعاصرة، وبات الكتاب -بالرغم من منافسة الوسائل الإعلامية وتشويقها- الهاجس الفكري والمعين القوي على التثقيف الذاتي للإنسان مهما تسارعت وتطورت الوسائل الثقافية الأخرى، وهذا ما نراه من إقبال لا تخطئه العين على اقتناء الكتب في معرض مسقط الدولي للكتاب، وهذا الإقبال أيضًا في رأيي ستزداد أهميته وتتلاشى نظريات تفوق التقنية الحديثة على الكتاب الورقي في العقود المقبلة.

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية ومؤلّف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين»