معاجم تؤصل اللغة وتوسع الثقافة

07 سبتمبر 2025
07 سبتمبر 2025

لدي شغف كبير بمعاجم وقواميس اللغة منذ سنوات مبكرة من عمري، ويعود الفضل في ذلك إلى والدي -رحمه الله- الذي كان كثيرا ما يطلب منا استخراج معاني بعض الكلمات من أحد قواميس اللغة العربية الموجودة لديه، ومنها «القاموس المحيط» للفيروز أبادي، وهو قاموس ما زلنا نحتفظ بطبعته الحجرية.

لقد سهلت وسائل ومحركات البحث الإلكترونية من طرق إعداد ونشر معاجم اللغات وتوسيعها، الأمر الذي مكن الباحثين من الوصول إلى معاني المفردات بيسر، وزاد في نفس الوقت عدد المفردات التي تشملها المعاجم، ووضحت علاقة بعض المفردات بلغات أخرى. كما مكنت التقانة الحديثة من جعل المعاجم اللغوية صفحات متجددة تضاف إليها بشكل مستمر مفردات جديدة تدخل إلى اللغة سواء كانت مفردات لم تكن (ممعجمة) من قبل أو مفردات تأتي من لغات أخرى، أو مفردات حديثة تأتي من إطلاق مسميات لمنتجات جديدة، ويتم ذلك عن طريق التعريب أو الترجمة.

وفي السنوات الأخيرة ظهرت معاجم خدمت اللغة العربية، وأضافت إلى الثقافة العربية بشكل عام إضافات مهمة، وإن بدرجات متفاوتة. أذكر هنا ثلاثة من هذه المعاجم: هي كتاب «فوائت المعاجم: الفوائت القطعية والفوائت الظنية» لعبدالرزاق الصاعدي. و«معجم الدوحة التاريخي للغة العربية»، وهو معجم أنتجته وترعاه حكومة قطر، و«المعجم التاريخي للغة العربية» الذي يرعاه مجمع الشارقة للغة العربية التابع لحكومة الشارقة بدولة الإمارات، وأنتج بتعاون بين مجمع الشارقة للغة العربية واتحاد مجامع اللغة العربية.

قبل بضع سنوات قام عبدالرزاق الصاعدي بجهد لجمع عدد من الكلمات العربية التي لم تحتوِها المعاجم العربية التقليدية، مثل كتاب العين للفراهيدي، ولسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروز أبادي وغيرها. استفاد الصاعدي في عمله ذاك من وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة معاني بعض الكلمات المستخدمة في البلدان العربية، ولكنها لم ترد في المعاجم أو القواميس. وفي سنة ٢٠٢٢ نشر الصاعدي كتابا عن الفوائت القطعية والظنية ضمّنه عددا من تلك المفردات ومعانيها، وهو جهد يستحق التقدير، وإضافة جيدة للثقافة العربية.

أما معجم الدوحة التاريخي للغة العربية فهو جهد علمي منهجي تحرى القائمون عليه الدقة والصواب فيما يورده من كلمات ومعانٍ، سواء من حيث معنى الكلمة وأصلها أو من حيث تاريخ ورود استخدامها لأول مرة في الشعر أو النثر العربي. وللتوضيح نورد مثلا ما جاء فيه من تفسير لمعنى كلمة «فَنَع». يقول معجم الدوحة: إن كلمة «فَنَع» تعني الخير والفضل، وإن أول استعمال معروف لهذه الكلمة حتى الآن كان حوالي عام ١٥٠ قبل الهجرة أي حوالي ٤٧٦ ميلادي، وإن ذلك ورد في بيت شعر لمالك بن فهم الأزدي قال فيه:

عمانُ وهل مثلها في البلاد

بها الفَنْعُ والفَنَعُ الأجبلُ

وإذا بحثنا في نفس المعجم عن معنى لكلمة أخرى، ولتكن «كردوس» نجد المعجم يقول: إن كلمة «كُردُوس» تعني عظم فقار البعير، وإن أول استخدام معروف لها كان حوالي عام ٥٠ قبل الهجرة أي حوالي ٥٧٣ ميلادية، وذلك في بيت شعر قاله علقمة الفحل:

قطاة ككردوس المحالة أشرفتْ

إلى سنَد مثل الغبيط المذأبِ

وكُردوس تعني كذلك الفرقة من الخيالة في الجيش. وقد استشهد على ذلك ببيت من الشعر قاله السُليك بن السُّلكة حوالي سنة ١٣ قبل الهجرة أي حوالي سنة ٦٠٩ ميلادية. وعلى ذلك المنوال يورد المعجم عددا هائلا من الكلمات العربية ومعانيها. وهذا المعجم يضيف كذلك إلى ما هو موجود ما يستجد من كلمات ويفسرها، وذلك في إطار التحديث المستمر له.

المعجم الثالث هم المعجم التاريخي للغة العربية، أو معجم الشارقة، وهو معجم غاية في الأهمية. لا يكتفي هذا المعجم بتفسير معنى الكلمات والتواريخ المعروفة لبدء استخدامها، ولكنه أيضا يتتبع أصل الكلمة في النقوش العربية القديمة، سواء الشمالية أو الجنوبية، وفي اللغات السامية، وهي الأوجاريتية، والفينيقية، والآرامية، والعبرية، والسريانية، والجعزية. الملاحظ أن هذا المعجم اعتبر اللغة العربية هي اللغة الأم لكل اللغات السامية المذكورة؛ لذلك نراه يؤكد عند تفسير جذر كل كلمة عربية لها شبيه في الساميات بالقول: «احتفظت الساميات بهذا الجذر من العربية الأمّ». وهنا أيضا نورد مثالا يوضح طريقة تفسير هذا المعجم لمعاني الكلمات، ولتكن كلمة «جبل». يعرض المعجم هذه الكلمة كما وردت في النقوش العربية القديمة، فيقول: إنها وردت في نص سبئي يعود إلى القرن الأول الميلادي. ويقول: إنها تدل على علَم لإحدى القبائل أو المناطق أو لمعبود أو إله، وكلها مفردات تعني العلو والارتفاع كما هي في اللغة العربية. ثم ينتقل إلى معنى كلمة «جبل» أو شبيهاتها في الساميات؛ ففي الأوجاريتية يطلق اسم «جبل» على كل ما علا واستطال، وفي الفينيقية «جْبلْ» تعني منطقة مرتفعة، إقليم، حدّ، وفي الآرامية «جَبَل» بمعنى خلط، عجن، خَلَق، وذلك موافق لأحد معاني كلمة «جَبَل» في اللغة العربية، وفي العبرية لها نفس المعنى الذي في الآرامية، وفي السريانية «جَبَل» تعنى خلق وصنع، وفي الجعزية «جَبْلا» تعني مسقى أو حوض السقي، وهي كلمة توافق المعاني المتعددة لها في اللغة العربية. ويشير المعجم إلى أن المعنى الكلي لكلمة «جبل» يعني «الخلق، الطبيعة، الضخامة». بعد ذلك يورد المعجم عشرات أو مئات المعاني لكلمة «جَبَلَ» ومشتقاتها في اللغة العربية الفصحى أو المعاصرة، ويستدل في تفسيره لمعاني تلك الكلمة بعدد كبير من الشواهد اللغوية والنصوص العربية، سواء في شعر ما قبل الإسلام أو ما تلا ذلك من شعر ونثر بما في ذلك ما جاء في النصوص العربية الحديثة.

أمَا وقد ألمحنا أن المعاجم اللغوية عمل منهجي عظيم لخدمة اللغة، وقلنا: إن التقانة الحديثة سهلت إعداد المعاجم ونشرها والاستفادة منها؛ فإننا نقول: إن واجب خدمة اللغة العربية هو اليوم أكثر إلحاحاً من ذي قبل، خاصة على العمانيين. لقد كان أسلافنا العظماء من بين أكثر من خدموا اللغة العربية في كل علومها من علم الصوتيات phonetic إلى قواميس اللغة إلى النحو والصرف والعروض والمعاني والبيان والبديع وغيرها. أليس منا الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب كتاب العين، والحسن بن دريد الأزدي صاحب كتاب الجمهرة، وكراع النمل علي بن الحسن الهُنائي صاحب كتاب المنتخب من غريب كلام العرب، وغيرهم من علماء العربية؟! بلى؛ إنهم من عمان. وقد سطعت شمس العرب بعلومهم وعلوم أمثالهم من العلماء، فأضاءت الدنيا، وأزاحت عن الناس دياجير الظلم والجهل.

وإذا كانت حماية اللغة العربية والنهوض بها عمل يمليه واجب الدفاع عن الهوية الوطنية والالتزام بالانتماء إلى الأمة؛ فإنه لا بد لعُمان من المشاركة في ذلك بتقديم عمل مميز لخدمة هذه اللغة، سواء كان ذلك في طرق تدريسها للناطقين وغير الناطقين بها، أو في طرق الاهتمام بقواعدها من عروض ونحو وصرف وبديع وبيان وغيرها. لا ينبغي أبدا الاتكال في ذلك على آخرين أو التردد في القيام بعمل ما خشية تكرار أعمال قام بها آخرون؛ لأن الثقافة بحر يتسع لكل من أراد الإبحار فيه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

د. عبدالملك بن عبدالله الهنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية