"مع هيكل"

20 فبراير 2022
20 فبراير 2022

إذا كان الرئيس ياسر عرفات رجلا مثيرًا للجدل، نجح الإعلامي محمد كريشان في تناول شخصيته في كتابه "وإليكم التفاصيل"، فإنّ هناك شخصية أخرى في الكتاب لا تقل جدلا عن عرفات، هي شخصية الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، الذي اقترب منه كريشان على مدى أكثر من عشر سنوات، نشأت خلالها علاقة ود ومحبة بينهما؛ لذا نجد أنّ كريشان يخصّص الفصل السادس من كتابه للحديث عن هيكل تحت عنوان "مع هيكل"، دوّن فيه ذكريات عديدة عن لقاءات تلفزيونية أجراها معه تجاوزت العشرين. ورغم ذلك الود، إلا أنّ كريشان أوضح أنّ لهيكل مريدين مفتونين مشطّين فيما يشبه التقديس، وكارهين حاقدين مسرفين في الذم والقدح، "لستُ من هؤلاء ولا أولئك، أحترمُ الرجل قامةً صحافيةً نادرة، وشبكة علاقات رهيبة، وتجربة سياسية ثرية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة التماهي التام مع كلّ ما قاله أو كتبه أو فعله"، وهذا ما يلاحظه قارئ الكتاب، إذ أنّ هناك تباينًا بين الاثنين في قضايا كثيرة، أهمّها موقف هيكل من الأحداث في سوريا، وتردّده من تأييد ما سُمّي بالثورة السورية، وكذلك مواقف هيكل السياسية حول ما جرى في مصر بعد الإطاحة بحكم الإخوان، وكذلك عدم رضا هيكل عن أداء قناة الجزيرة في تغطيتها للثورات العربية، وعدم إعجابه ببرنامج "الشريعة والحياة" وضيفه الدائم حينذاك الشيخ يوسف القرضاوي.

إنّ فصل "مع هيكل" لا يقلّ إثارة عن فصل عرفات؛ فالكاتبُ يقدّم دروسًا للإعلاميين بما يشبه منهاج عمل، كما أنّه يقدّم لنا الوجه الآخر لهيكل لا يعرفه إلا المقربون منه. ويتذكّر كريشان ذلك اليوم من سبتمبر عام 2004، عندما كلفه وضاح خنفر مديرة قناة الجزيرة، القيام بأول مقابلة مع هيكل، وتستعيد ذاكرته وهو شابٌ في مقتبل عمله الصحفي زيارته لمصر، فحاول الوصول إلى هيكل، لكن سكرتيرة الأستاذ "زحلقته". ويشاء الله أن يصبح ذلك الشاب لاحقًا قريبًا من هيكل. يصف كريشان فرحته بتكليفه بهذه المهمة؛ ولكنه يقول إنه أصيب بكثير من التوتر ليس فقط لأنه ليس من السهل محاورة هيكل عما قاله في عشر حلقات كاملة سابقة متشعبة الأفكار، وإنما لأنه تجتمع معه في نفس الحلقة ثلةٌ من الشخصيات العربية المرموقة بين حضور في الأستوديو وآخر عبر الأقمار الاصطناعية في حيّز زمني لا يتجاوز الخمسين دقيقة. أمام هذا ماذا فعل كريشان؟! يقول: "عدتُ لتلك الحلقات العشر، أشاهدها وأدوّن أبرز ما ورد فيها، حتى كدتُ أحفظ كلَّ ما جاء فيها، لتكون محاور نقاش مع الأستاذ هيكل وباقي الضيوف". وهذا درسٌ يقدّمه كريشان للصحفيين عامةً والمذيعين خاصة؛ فلا يُعقل أن نشاهد مذيعًا أو مذيعة، يقول للضيف: ممكن تعرّف نفسك؟! فما نشاهده هذه الأيام مع انتشار القنوات الفضائية هو أقرب إلى مأساة؛ إذ ظهرت ضحالة ثقافة وفكر المذيعين. وربما تكون هذه فرصتي - بحكم عملي في الإذاعة سابقًا - لأقول إني أرى نموذجين مشرفين في هذا المجال هما الزميل سليمان المعمري، الذي يبحث كثيرًا عن موضوعات برامجه، ومنها برنامج "كتاب أعجبني"؛ والزميلة نايلة بنت ناصر البلوشي، التي تحرص أن تلتقي بضيوفها وتجلس معهم بالساعات قبل أن تستضيفهم على الهواء. هذا عن دور المذيع، ولكن ماذا عن هيكل الضيف؟ يوضّح كريشان أنّ هيكل كان يستعدّ لكلّ حلقة بجدية متناهية، بل إنه كان يستعدّ لها وكأنه ذاهبٌ إلى امتحان، يراجع ما سيقوله، ويحضّر الأرقام التي سيقدّمها والتواريخ التي سيستعرضها، والاقتباسات التي ستدعم آراءه. هذا كان شأن هيكل مع الأحاديث التلفزيونية؛ أما عن الكتابة، فقد روى أنّ من عاداته بعد أن يكتب مقالا مّا، يهمه جدًا رأي الناس فيه، فيعطيه لصديق قبل النشر لأخذ رأيه. يشيد ذلك الصديق بما جاء في المقال، ولكنه وبمجرد أن يشرع في القول "ولكن" يقوم هيكل بتمزيق المقال فورًا، لأنّ "لكن" تعني أنّ الفكرة الرئيسية لم تصل، وهذا حسب رأيه سببٌ كافٍ لتمزيقه وإلغاء نشره. وماذا عسانا أن نقول نحن؟!

يأخذ كريشان قرّاءَه إلى عالم هيكل الخاص والعام، ويقدّم للقارئ كواليس تلك المقابلات والنقاشات، وزياراته لهيكل سواء في شقته ومكتبه في القاهرة أو في منزله في برقاش، ويصف برنامجَ هيكل وطقوسه اليومية وأسلوبه في العمل والكتابة، وكيف يداوم ببدلته الرسمية في مكتبه الملاصق لشقته في القاهرة، حتى لو لم يكن ينتظر ضيفًا.

يقول كريشان: طوال السنوات العشر التي التقى هيكل فيها، بُني بينهما ما يقترب من الصداقة؛ وكان واضحًا في كلّ المقابلات على الهواء الاستلطاف المتبادل الذي يطبع كلّ واحدة منها، ما جعل بعضها أقرب إلى الدردشة الودية بين صديقين، "رغم الفرق الشاسع بداهة في المكانة والمعرفة والتجربة" كما يقول كريشان بتواضع جم. ويقول: "في كلّ مرة كنّا نخوض في قضايا شتى مهنية وشخصية وسياسية قبل أن نتطرّق إلى محاور كلّ مقابلة وتسلسلها، ثم يترك لي تفاصيل إدارتها دونما تدخل في طبيعة الأسئلة أو مضمونها".

هناك كثيرون ممن يهتمون بهيكل، ويودون معرفة التفاصيل الدقيقة لبرنامجه اليومي وطقوسه في القراءة والكتابة وغيرهما من الأمور، وهذا ما لاحظه كريشان، فعند اختياره لإجراء الحوار مع هيكل، صار محلّ فضول كثير من الصحفيين الذين كانوا يبادرون في كلّ حوار صحفي يجرونه معه للتساؤل عن هيكل، كيف هو؟ وكيف يستعد لحلقاته؟ وكيف هي العلاقة بينها؟ وما سر هذه الذاكرة القوية لديه؟ وما هو نمط حياته اليومي؟ مع فضول زائد لدى البعض ممن يريد معرفة حتى المكافأة المالية التي يحصل عليها هيكل لقاء هذه اللقاءات الحصرية. وعن ذاكرة هيكل القوية يقول كريشان إنها كانت ذاكرة خرافية حقًا، وقد روى له كيف كان مدرّسه أول من اكتشفها بعد أن قرأ لهم قصيدة، ثم سأل تلاميذه إن كان منهم من هو قادرٌ على أن يعيد منها بيتًا أو اثنين، لكنه ذُهل حين أعادها هيكل كاملة، فسأله المدرس ما إذا كان يعرف تلك القصيدة من قبل، أجاب بالنفي، فما كان من المدرس إلا أن قال له: لقد حباك الله بذاكرة غير عادية، فاحرص عليها ونمّها، ولا تضيعها أبدًا.

بعيدًا عن هموم السياسة يقول كريشان إنّه في إحدى المرات سأل هيكل ما إذا كان يقرأ كلّ الكتب التي تصله، فقال إنه يقرأ منها الفقرات الأكثر أهمية، تاركًا البقية إلى يوم قد يحتاج فيه إلى العودة إليه.

يقول كريشان: "مرض هيكل لفترة قصيرة، فدعوتُ له في محنته، ثم رحل عن دنيانا الفانية، فترحمتُ عليه، فيما لم يتورع البعض الآخر عن الشماتة في المرض والموت معًا. ورغم ما خلّفه ذلك من مرارة على ما آلت إليه بعض النفوس، فإنّ ما لم يتجرأ عليه أحدٌ أبدًا هو الطعن في قيمة هيكل الصحافية وقلمه الساحر وسلاسة حديثه وسعة اطلاعه، إلى أن صار أبرز صحافي عربي في العقود الماضية على الإطلاق، تقصده شخصياتٌ دوليةٌ ووسائلُ إعلام كبرى ومراكز بحثية دولية مختلفة، للوقوف على تقديراته للموقف في منطقتنا. فهل يطمع الصحفي في أن يُذكر بعد رحيله بما هو أكثر من ذلك؟" وما قاله الأستاذ محمد كريشان في حق هيكل فيه من الصدق ما فيه وهو كفاية، فمهما اختلف الإنسان مع هيكل إلا أنه لا يستطيع أن ينكر المكانة الصحفية العالية التي وصلها.

* زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب "الطريق إلى القدس"