مع أبطال النفق

26 سبتمبر 2021
26 سبتمبر 2021

لا ينبغي النظر إلى إعادة اعتقال أبطال نفق الحرية في فلسطين على أنه هزيمة، وأنّ ذلك قد ألغى الإنجاز الكبير الذي حققه أولئك الشباب، الذين انتزعوا حريتهم بإرادة قوية وصلبة وعزيمة لا تلين، في ملحمة وطنية كانت أقرب إلى الخيال، ممّا ذكّرني بتفاصيل هروب أبناء الجنرال محمد أوفقير أحد أشهر وزراء الداخلية في المغرب، من أحد أسوأ المعتقلات بطريقة مشابهة تمامًا لطريقة أبطال سجن جلبوع. ولا ينبغي النظر إلى إعادة اعتقال هؤلاء الشباب على أنّ المنظومة الأمنية الإسرائيلية قوية فقط، ونتجاهل حقيقة أنها تعرّضت لصفعة كبيرة ومؤلمة من قبل هؤلاء الشباب. ولا ينبغي أن ينسينا اعتقال الأبطال من جديد على فشل مصلحة السجون الإسرائيلية في حادثة "الهروب" تلك، وأنه يُحتمل أن يكون هناك من تعاون معهم من السجانين، مصداقًا لكلام الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي قال لعبد الباري عطوان يومًا ما إنه يعلم خبايا الإسرائيليين، وكم اشترى منهم مقابل المال.

جاء اعتقال الأبطال الستة من جديد، ليؤكد حقيقة نجاح عملية الهروب من السجن، التي حاول الكثيرون أن يشككوا فيها منذ اللحظات الأولى للإعلان عن الخبر، ولم يقتصر الأمر على الشك فقط، بل تعدى ذلك إلى السخرية من إمكانية حدوث عملية كهذه، وتركزت التساؤلات حول مصير كمية الأتربة التي استُخرجت من نفق طوله أكثر من عشرين مترًا، وكيف تخلصوا منها؟ وكيف لم تتلف الأدوات البسيطة التي استخدموها في الحفر على مدار عام كامل؟ فيما ذهبت بعض الآراء إلى احتمال أن تكون إسرائيل قد قتلت هؤلاء السجناء وأخفت جثثهم، فزعمت أنهم هربوا كي لا يثير مقتلهم ضجَّة وتحقيقات. وقد علّقتُ لبعض الأصدقاء الذين رسلوا لي مثل هذه التساؤلات أنّ إسرائيل تستطيع أن تقتلهم بكلّ هدوء، ولن يحاسبها أحدٌ في العالم، لأنّ القلم مرفوعٌ عنها دوليًا.

كان من بين الساخرين من عملية التحرر تلك، الكاتب يوسف زيدان، الذي كتب في صفحته أنّ عملية الهروب ليست إلا "مسرحية وفيلم هندي"، ووصف الأسرى أنهم ممثلون وما قاموا به لا يعدو أكثر من مجرد مسرحية. وقال "انشغل الجميع بمسرحية الهروب الوهمي للمعتقلين الفلسطينيين من السجن الإسرائيلي"، مدعيًا أنهم لن يعودوا أحياءً مرة ثانية في حال ظهورهم، وهو الادعاء الذي ظهر بطلانه؛ واستهزأ زيدان بكلّ من صدّق بعملية الهروب واصفًا إياهم بالمغيّبين. ولا أدري هل لم تمر على يوسف زيدان - وهو المؤرخ والروائي - كتُبُ آل الجنرال محمد أوفقير الذين كتبوا عن قصة هروبهم من السجن بطريقة مماثلة تمامًا لطريقة أبطال نفق الحرية؟! إنّ من يقرأ كتاب "السجينة" لمليكة أوفقير وهو كتابٌ واحدٌ صدر ضمن أربعة كتب كتبها أولاد أوفقير وأمّهم، يعيش لحظات الهروب من السجن بدقائقها وثوانيها، وهكذا عشتُ مع الكتاب، لذا لم أتفاجأ أبدًا عندما قرأتُ تفاصيل الهروب من سجن جلبوع. ولا أدري الآن ما هو موقف زيدان بعد إلقاء القبض على الأبطال الستة وهم أحياء، هل ما زال يعتقدها مسرحية، وهل كلّ من آمن بها من المغيّبين؟! في كلّ الأحوال يجب أن نذكّر القارئ أنّ موقف يوسف زيدان هذا ليس مستغربًا، فقد أصبح مثيرًا للجدل في كلّ آرائه، خاصةً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، رغم إعجابي الشديد بروايته "عزازيل" التي لم تسلم أيضًا من شبهة الانتحال؛ فقد سبق له أن دعا بلاده، إلى التعاون والتحاور الفكري مع الكيان الإسرائيلي، ووصف الكيان بـ "العدو العاقل"، وأن ليست من مصلحة مصر أن تصبح مثل سوريا وباقي دول المنطقة التي تعاني من أزمات، ورحّب في لقائه ببرنامج "90 دقيقة"، المذاع عبر فضائية "المحور"، في الأول من أكتوبر 2018، بزيارة إسرائيل، وإلقاء محاضرات فيها بشرط الحصول على موافقة اتحاد الكتاب ووزارة الخارجية المصرية. وفي اللقاء وصف الرافضين للتطبيع مع الكيان الصهيوني أنهم "مجموعة من الكتاب الجهلاء غير المطلعين على الثقافة العالمية"، والحالةُ هذه لا يُستغرب أن يشكك زيدان في بطولة نفق الحرية وفي بطولة الفلسطينيين عامة، مثلما شكك من قبل في صلاح الدين الأيوبي وفي المسجد الأقصى.

إنّ أسوأ ما قيل بعد إعادة اعتقال أبطال نفق الحرية، تعلق بالتنسيق الأمني بين القيادة الفلسطينية والكيان الصهيوني؛ إذ كيف لدولة تحتل أرضًا وتطرد وتقتل شعبًا ثم تأتي حكومة الضحية لتنسّق أمنيًا مع دولة الاحتلال وتسلم أبناءها لها؟! معظم تعليقات الفلسطينيين دارت حول نقطة التنسيق الأمني السيئ، وتجرأ الكثيرون في القول إنّ الخوف أساسًا هو من السلطة الفلسطينية أكثر من العدو الصهيوني، وهذه في الواقع مصيبة تعني الكثير.

آلاف المقالات والدراسات والتغريدات تناولت بطولة أسرى النفق، وما زالت المقالات والتحليلات تتواصل حول التمكن من الهروب وحول إعادة القبض على الأبطال؛ وبالتأكيد فإنّ التحقيقات التي تجريها السلطات الإسرائيلية مع الأبطال ستُظهر الكثير من الخبايا، إلا أنّ بعض ما قيل عن إلقاء القبض على الأبطال الستة من جديد فيه بعض الإساءة للفلسطينيين؛ ومن ذلك أنّ هناك من أبلغ السلطات الإسرائيلية عنهم؛ إلا أنّ هناك من نفى ذلك - بما فيهم الأبطال أنفسهم -؛ فإعادة الاعتقال لم تكن نتيجة وشاية من أحد، - رغم عدم استبعادنا لحدوث مثل ذلك - فقد جنّد الاحتلال قوة هائلة لتعقب الأسرى، واستخدم الطائرات المسيّرة، واستعان بالكاميرات التي تغطي المدن العربية المحتلة كافة في فلسطين، وكذا تقنيات التعرف على الوجه والبصمات، بما فيها بصمة العين وبصمة الصوت، وتقنيات التجسس على الهواتف النقالة، ورصد المحادثات على الإنترنت، بل استعان الاحتلال بالقفّارين وهم متتبعو الأثر، الذين لعبوا دورًا كبيرًا في الوصول إلى الأسرى، خاصةً الأخيرَين، وغير ذلك من الوسائل طبعًا. (الغريب أنّ علم تتبع الأثر كان مشهورًا في عُمان، واندثر الآن أو كاد).

بكلّ المقاييس ما قام به الأسرى الستة هو عملٌ جبارٌ يُضاف إلى بطولات الشعب الفلسطيني، ويجب أن يدّرس مستقبلا، لأنّ القدر يستجيب دائمًا لإرادة الشعب. وبقدر الإحباط الذي أصابنا من الاعتقال من جديد إلا أنّ ذلك الاعتقال لا يقلل من العمل البطولي الذي قام به الشبان الستة.