مصايرُ الشعوب مَزْلقُ الساسة

26 نوفمبر 2023
26 نوفمبر 2023

يحاول المرء النأي بنفسه عن كل متعلقات السياسة ومعطياتها، وما ذلك إلا لكونه غير معني بها أصلا ومُكتَفٍ بما يشغله من واقعه اليومي ومسؤولياته الاجتماعية، أو لإدراكه المعرفي التراكمي بأن النأي عنها أسلم لعقله، وأصلح لتحقق سلامه النفسي من كل ما تحتويه السياسة من متناقضات وصراعات وقسوة، لكن هل يمكننا النجاة من السياسة حقا؟ أما زال المسرح السياسي حلبة للمتنافسين على النفوذ والسلطة كما يعرفها «هانز مورغنتاو» في كتابه «السياسة بين الأمم» قائلا: «السياسة صراع من أجل القوة والسيطرة».

حقيقة يودُّ أحدنا لو أنه أدرك ذلك السلام العظيم المبتغى ونأى بنفسه عن ذلك الصراع وتلك الحلبة، لكن الواقع الحالي يحيلنا إلى حقيقة يصعب نكرانها تماما كما يصعب تبنيها ألا وهي أن السياسة أصبحت بتوأمتها وعالمَ الأعمال المحرك الرئيس لكل ما نعيش وما نعاني أو حتى ما نأمل، وليس الارتباط بينهما (أعني السياسة والأعمال) وليد الحاضر، بل هو قديم جدا، وهو ما يقتضيه المنطق إن أصبحت السياسة صراعا لأجل النفوذ والسلطة فإن الأعمال والمال طريق الوصول لتلك الغاية بتضمنها أقوى المؤثرات المادية للوصول إلى ذلك الهدف، لا سيما في قدرة آلة المال على تهميش وإقصاء كل وعي أو إدراك لنظريات أخلاقيات العمل السياسي التي تلوكُها المنظمات القانونية لأكثر من عقدين من الزمن، أو أسس التنافس النزيه في عالم الأعمال.

وما هذه المقالة إلا عبور على تساؤلات ذهنية حول السياسة ومبررات تعاطيها، ثم من يملك الحق في ذلك التعاطي، خصوصا إن لم يسعَ بشخصه لأي نفوذ أو سلطة، فهل نملك نحن الحق في ذلك التعاطي؟ ثم من نحن؟ المواطن العادي المشغول بصراعاته الواقعية مع المعيشة والحياة، أم الكاتب المسؤول عن تحريك وعي الشعوب، أم الأكاديمي المفترض مشاركته في وضع وتأسيس وتنمية وعي الشعوب وتغيير مسارات الساسة لصالح الإنسان وتنمية البلدان؟ أم المهنيون المختصون من أطباء ومهندسين واقتصاديين وموظفي قطاعات حكومية أو مؤسسات خاصة بحرفهم المختلفة ومعارفهم المتنوعة، وهم طبقة لا يمكن إلا أن يعول عليها في تأسيس وتنمية الوعي كما يعول عليها في بناء الدول؟

نتصل مجددا بالسياسة ومعطياتها في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات مع ما نعيش من قضية قديمة معاصرة وصراع طويل مستمر، لا مع دولة احتلال وحسب بل مع نفوذ استعماري مهما تلوّن، وسلطة اقتصادية مهما تقنّعت، ومن بغيتنا للوصول إلى جواب نتساءل أيضا: هل تغير مشهد صراع الساسة المتنفذين (ماليا) على حلبة تقوم على جثث القتلى من الشعوب المنكوبة، وقوت الناس اليومي، ومصاير الدول الأضعف اقتصاديا أو عسكريا؟ وهل هذّبت كل المنظمات العالمية حقوقيا وإنسانيا - تلك التي تدعي أخلاقيات عليا ومواثيق إنسانية وعمل متصل دون كلل أو ملل مع كل ما تستنزف من أموال وجهود- من وحشية صراع السلطة والنفوذ، هل استطاعت بكل عدتها وعتادها حماية الإنسان حيثما كان مما ظنناه أبعد من أن يكون محل نقاش بين أروقتها اليوم بعد قرون من السعي لذلك وهو العنصريات المدمرة، والتصفيات العرقية، وسحق الشعوب بأكملها بعيدا عن تصفية الأفراد منافسين أو معارضين هنا وهناك بطرق مقنّعة، وعمليات استخباراتية عليا يمكنها النجاة متى ما صنعت الغطاء المناسب لجرائمها ومخالفاتها.

صارت الجريمة أكبر من أن تخفى، والوعي أوسع من أن يتم تشتيته حين أفْسدَ الإعلامُ الرقميّ (صنعوه ليكون أداة لهم لينقلب سحرهم على ساحره) ما بني في غرف المفاوضات المادية، وتبادل المصالح طويلة المدى، كل ما أسس على افتراضين رئيسين؛ تسطيح الوعي الشعبي العالمي بجملة من القضايا كالانتصار للمثلية، أو الوعيد من معاداة السامية، تحت مظلة الحرية وحمايتها معتقدا وسلوكا، ثم افتراض السيطرة على آلة الإعلام لترويج ما يخدم المتفق عليه من مصالح الشركاء.

ومع تهاوي هذين الافتراضين في صدمة دول العالم بما قدم لهم من مصادر متاحة للوصول للحقيقة جعلت كل هذه الشعوب المتعطشة لتبني قضية ذات قيمة تجعل من فلسطين قضيتها، وتتوحد الآراء لنصرة الإنسان على حساب المصالح القائمة على ترويج القتل وتسويق التسليح، خصوصا مع تحديات الواقع الاقتصادي التي قلصت حجم خسارة الأفراد وعظمت حجم خسارات المؤسسات والشركات، ولكن هذا التصادم وهذا الوعي أسلمنا لحقيقة أخرى أن ادعاءات الموضوعية وحرية التعبير ما هي إلا علك وخدعة يراد بهما إسكات الأضعف اقتصاديا، يدلنا على ذلك ما أثبت من إخراس للكثير من الأصوات حتى تحت قباب أعرق الدول الأوروبية تنظيرا لحقوق الإنسان وحرية التعبير، وليس ذلك فحسب، إذ أن كتم الأصوات وعقاب الناطق لم يقف عند أولئك المواطنين العاديين أو الكتاب في الصحف المهمشة، بل تجاوز كل ذلك ليشمل البرلمانيين في المجالس العالمية، والكتاب في صحف عالمية، والأكاديميين في جامعات غربية طالما تباهت بسقف الحرية وحماية حق التعبير عن الرأي، بل إنها تجاوزت كل ذلك لتنسحب حتى على القلة الذين ظننا أنهم بما يملكون من ثروة سيملكون رأيهم الحق غير المنحاز لطرف ما طمعا في نيل مال أو نفوذ لما بلغوا من سقف الثروات ونفوذ المال، إلا أن ساقية المال والنفوذ جرفتهم كذلك إما طمعا في الآتي أو حرصا على الحاضر، وهو ما صرّح به بعض الرافضين الذين اختاروا الانتصار لمنصة الحقيقة كما فعل إيلون ماسك مؤكدا عدم اهتمامه بخسارته من المال أو السلطة في تصريحه مؤخرا.

متى يملك الإنسان رأيه في هذا العالم المادي إن لم يملكه مع تعميق وعيه وبناء مداركه؟ أو حتى مع بناء ثروة يعتقد معها أنه ضمن أمان رأيه وفضاء كلماته كأقل حق ممكن؟ ثم هل يمكن أن نبحث بعد كل هذا الواقع عن نزاهة السياسة وأخلاقياتها بعيدا عن تساؤل مصطفى صادق الرافعي الذي لم يعش ربع ما نعيشه حين قال: « أيستطيع الرجل أن يكون سياسيا إلا إذا كان كاذبا في أقواله وأفعاله؟ يبطن خلاف ما يظهر، ويظهر خلاف ما يبطن، ويبتسم في موطن البكاء، ويبكي في موطن الابتسام؟» أم يجدر بنا تبنيها معه حتى مع النادر من أمثلة النزاهة في هذا العالم الاستهلاكي المرعب، لنعود في ختام هذه المقالة مع هروب محمد عبده في كتابه «الإسلام والنصرانية والعلم والمدنية» في تطيره وتعوّذه حتى من مشتقات الكلمة وتجلياتها: « إن السياسة تضطهد الفكر والدين.. أعوذ بالله من السياسة ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة سياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس».

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية