مسقط تنطلق نحو التخصصات النوعية لاقتصادها الجديد
قد أقر مجلس الوزراء مؤخرا برنامج الابتعاث الخارجي للأعوام 2023/ 2027م، وسوف يركز على تخصصات المستقبل النوعية، وفي أفضل الجامعات العالمية، وبعدد «150» بعثة على مدى خمس سنوات، بدءًا من العام الحالي، وبتكلفة مالية تصل إلى «36» مليون ريال عماني، وهذا التوجه يضع سلطنة عمان في الطريق الصحيح لمواجهة احتياجات اقتصادها المعاصر في ضوء توجهاتها نحو مسارات معلنة، وقد أشرنا إليها في مقالين سابقين، هما «الاقتصاد العماني الجديد.. وجيله الوطني التقني/والتكنولوجي، والآخر «مصانع إنتاج الكفاءات العمانية لمستقبل التكنولوجيا المتقدمة» أكدنا فيهما على العلاقة الوجودية بين الاقتصاد العماني الجديد، وتأسيس جيل وطني يدير هذا الاقتصاد.
واقترحنا إقامة صندوق وطني يكون من بين أهم أهدافه الابتعاث لأرقى الجامعات العالمية، وتكوين قاعدة واسعة من الكوادر الوطنية في التخصصات النوعية والدقيقة المختلفة، وإطلاق مجلس الوزراء هذا البرنامج الآن يعزز الرهانات الوطنية على التخصصات النوعية والدقيقة لانطلاقة البلاد القوية، مما ينبغي إعمال الفكر الآن في ماهية وحجم هذه الانطلاقة داخليًا وخارجيًا «نوعًا وكمًا» وفي التخصصات النوعية والدقيقة، وتهيئة ذهنية الطلاب للاهتمام وتحفيزهم على دراسة المساقات الدراسية المتعلقة بالعلوم والرياضيات والتكنولوجيا.. الخ.
والتحدي الآن يكمن في كيفية اختيار التخصصات النوعية في المجالات التي تشكل مفاصل الاقتصاد العماني الجديد، أبرزها:
- الطاقة النظيفة.
- الطاقة النووية للاستخدامات المدنية.
- الذكاء الاصطناعي.
- الفضاء الخارجي.
- الطائرات المسيّرة.
- الأمن السيبراني
- والقطاع اللوجستي.
وفي هذه القطاعات تطمح سلطنة عمان إلى تحقيق مراكز عالمية متقدمة، مثلا تحويلها إلى مركز عالمي لإنتاج الهيدروجين الأخضر، وهي تسير بخطى سريعة، وتخصص المليارات للاستثمار فيه، وقادرة أن تصبح من كبرى الدول المصدرة للهيدروجين الأخضر، وهي تدخل الآن في شراكات عالمية مستدامة، ومثال آخر، وهو، جعل سلطنة عمان من بين الدول العشر الأوائل المزودة للخدمات اللوجستية بحلول عام 2040، حيث يعد من بين أهم القطاعات التي سترفد الاقتصاد المحلي والاقتصاد العالمي.
فكيف ينبغي أن نجعل تلكم القطاعات مصدرًا مهمًا للأجيال الجديدة للدراسة والعمل؟ وهي ستكون كفيلة بتطوير اهتماماتهم بالدراسة، وهنا نفتح قضية توعية المجتمع، وبالذات الجيل العماني الجديد بأهمية تلكم القطاعات على مسارين أساسيين هما: مدى تأثيرها على كافة الجوانب الحياتية من جهة، وعلى إقامة اقتصاد قائم على المعرفة من جهة ثانية، وحتى الآن لم يصل هذان المساران إلى الوعي المجتمعي العام، وأتذكر مثلًا، لأنه بعيد الإعلان عن توجه إطلاق السلطنة لأول قمر صناعي -قبل فشل انطلاقته- استغرب الكثير في وسائل التواصل الاجتماعي من هذه الخطوة، وتساءلوا هل استنفدنا حاجتنا من الأرض حتى نغزو الفضاء؟.
هنا منطقة وعي ينبغي أن نسارع الخطى في استهدافها سريعا، ونحرص على إيصال رسائلها لكل أطياف المجتمع، بما فيهم الشباب الذين على مقاعد الدراسة، من هنا ينبغي أن تكون في هذه المرحلة الآن برامج توعية وتعبئة الذهنيات الاجتماعية والجيل الجديد بالتخصصات النوعية والدقيقة التي تحتاجها قوة بلادنا المعاصرة، وهذه مسؤولية المراكز والهيئات التي أقامتها الحكومة للأغراض سالفة الذكر، ونخص بالذكر جهاز الاستثمار العماني والمركز الوطني للفضاء والتقنية المتقدمة والذكاء الاصطناعي..الخ، كلٌ في مجال اختصاصه، وبالتنسيق بينها لتكامل الرسالة الوطنية، ولضمان وصولها للمستهدفين، فلا ينبغي أن تعمل هذه المؤسسات بمعزل عن المجتمع، ودون صناعة الحافزية للطلاب وهم على مقاعد الدراسة للاهتمام بمواد العلوم والرياضيات والتكنولوجيا.. الخ. وبحجم تلكم التوجهات الكبرى، وذات الشمولية المتعددة والمتنوعة التي يحتاجها مستقبل الاقتصاد العماني، نتساءل هل «150» مبتعثا خلال السنوات الخمس المقبلة كافٍ؟ بمعنى آخر هل هذا العدد متوازن مع الطموحات الوطنية المثالية، فهذه المدة الزمنية المتوسطة هي في غاية الأهمية للمستقبل العماني عامة، وللاقتصاد خاصة، لأنها تتزامن مع توجهات سلطنة عمان الاقتصادية الجديدة لتنويع اقتصادها بمصادر دخل مستدامة التي تعتمد على التقنية والتكنولوجيا، وهنا تصبح عملية الاستثمار في الرأسمال البشري العماني لا يقل أهمية عن الاستثمار الملياري في تلكم القطاعات.وذلك لتقاطعه مع هدف استراتيجي آخر، وهو تكوين جيل تقني/تنكنولوجي علمي على نطاق واسع وشامل معززا بمهارات تطبيقية وفق أفضل المعايير العالمية، لهدفين ينبغي أن يكونا مستهدفين لذاتهما، وهما الحد من المرتبات المحدودة، ولدواعي الإدارة الوطنية للاقتصاد العماني المستقبلي، وكلما كانت المهارات المكتسبة عالية وعميقة، انعكست إيجابا على الدخول وعلى نجاح الاقتصاد العماني الجديد.
ونقترح إعادة التفكير في زيادة عدد المبتعثين من منظور حاجة سلطنة عمان من التخصصات النوعية والدقيقة خلال المدى المتوسط، وينبغي أن يكون ذلك وفق استراتيجية معدة مسبقا، يتم تنفيذها بدقة وبحوكمة مؤسساتية، لأن هذه التخصصات النوعية والدقيقة هي قاطرة الاقتصاد العماني الجديد، وأهم عامل لمواجهة المنافسة الإقليمية - كما ذكرنا ذلك في أحد مقالاتنا سالف الذكر، فهل تتوفر استراتيجية بالتخصصات النوعية والدقيقة التي يحتاجها الاقتصاد العماني وفق مراحله الزمنية الحتمية؟.
ولا تقتصر عملية الاستثمار في رأسمالنا البشري على الابتعاث لأرقى الجامعات العالمية سالفة الذكر فحسب، وإنما هناك وسيلة أخرى لتأسيس جيلنا التقني/ التكنولوجي، لا تقل عنها أهمية، وهي في ملعب جهاز الاستثمار العماني، فخطوته الصحيحة في الاستثمار في تطوير التقنيات والتكنولوجيا في شراكة مع شركات عالمية، كالاستثمار في تطوير تقنية الطائرات المسيّرة مثلا، ينبغي من خلالها أن يشترط في عقوده على تأهيل كوادر وطنية تقنية/ تكنولوجية، وكذلك توظيف كوادر عمانية خريجة من جامعات عمانية وعالمية لاكتساب المهارات، وكذلك دوره في توطين التكنولوجيا المتقدمة من خلال جذب استثمارات شركات التكنولوجيا مما سيكوّن فرصة سانحة لتدريب المخرجات التقنية والتكنولوجية العمانية.
وكل ما سبق ذكره ينبغي أن يتزامن مع إصلاح التعليم الجامعي في البلاد، وتشجيعه على التركيز على التخصصات النوعية وزيادة استيعاب الطلبة في الكليات النوعية، وتفعيل الشراكات التدريبية بين الجامعات والقطاع الخاص منذ السنة الأولى الجامعية، وبوظائف ولو بدوام جزئي أو موسمي، كما هو معمول في بعض التجارب الناجحة، وذلك بهدف الإعداد الجيد للمواطن، وتأهيله لسوق العمل الذي سيكون للمؤهلين علميًا وعمليًا، وكلما كان التأسيس عميقا بتلكم الثلاثية /نكرر/ كان المواطن عملة عالمية مطلوبة لذاتها وبعائد مالي كبير داخل وطنه أو خارجه.
