مستقبل الإسلام السياسي

05 ديسمبر 2021
05 ديسمبر 2021

«الإسلام السياسي».. يرى البعض أن أول من استعمل هذا التركيب محمد رشيد رضا، إلا أنه استعمله لغوياً في الحديث عن الجوانب السياسية للإسلام، وليس مصطلحاً دالاً على فكر بعينه. وقد شاع استعماله مصطلحاً على الحركات الإسلامية أواخر ثمانينات القرن العشرين الميلادي، بعد أن أصدر المصري محمد سعيد العشماوي كتابه «الإسلام السياسي» عام 1987م، فنسب الكثيرون إليه اختراعه. والصحيح.. أن العشماوي مسبوق من قِبَل الفرنسي جيل كيبل، بمحاضرته «حركات الإسلام السياسي في مصر أنور السادات» التي ألقاها 1983م. وقد انتشر على نطاق عالمي بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م.

تطرقت للإسلام السياسي في كتابي «السياسة بالدين»، وتتبعت تطوره في فصل كامل، وأرجعت بداياته إلى ما بعد سقوط الخلافة العثمانية، وعرفته بأنه (الحراك الإسلامي الذي يمارس السياسة بغية الوصول إلى الحكم، لتحقيق «الخلافة الإسلامية» التي يعدّونها فريضة غائبة لابد من رجوعها)، ويبدو لي اليوم.. أن هذا التعريف عام، يحتاج إلى تفصيل. إن الإسلام بصيغته الكلية وتطبيقاته النبوية ملابِسٌ للسياسة، فلم يكن النبي الكريم مقتصراً على الدعوة، وإنما مارس السياسة بكل تجلياتها بتجربة ناجحة، وما أن توفي حتى بدأ الخلاف يدب بين صحابته، ثم انفجر الوضع منتصف حكم عثمان بن عفان، حتى انتهى العهد الراشدي زمن علي بن أبي طالب. فانقسمت السياسة لدى المسلمين إلى نظامين:

- الخلافة؛ متمثلة في الأمويين ثم العباسيين ثم العثمانيين، ودولتها أقرب لبنية «الدولة المدنية» -إن جاز التعبير- مع فارق الزمن.

- الإمامة؛ كالإمامة الإباضية، والإمامة الزيدية، ودولة المرابطين المالكية، وإمارة طالبان الحنفية، وهي تقوم على المقررات الفقهية، كل تجربة بحسب مذهبها، وهذا ما أسميته بتيار «السياسة الشرعية».

كل تجربة من تجارب السياسة الشرعية محدودة بزمانها ومكانها، فلم يؤثِّر سقوطها على مجموع الوجود الإسلامي، بعكس سقوط الخلافة العثمانية فقد كان مدوياً، لأسباب أهمها: هيمنتها على رقعة واسعة من العالم الإسلامي، فحضورها في الضمير المسلم قوي. ولَفْظُ «الرجل المريض» أنفاسه الأخيرة على يد الاستعمار الغربي، ثم إصدار كمال أتاتورك شهادة الوفاة عام 1924م. ومن الطبيعي.. أن يؤدي هذا السقوط إلى ردود فعل من الفكر الإسلامي، فنشأت حركات لاستعادة «الخلافة الإسلامية».

في مقال سابق.. بيّنت الدواعي لتبني الإسلام السياسي النظرية الشمولية التي تستهدف قيام الخلافة بين المسلمين، والخلافة المقصودة لدى منظّري هذا التيار وقادته هي «الخلافة الإسلامية على هدي النبوة»، وأهم مَن نظّر لها سيد قطب. وواقعاً.. ينبغي الفصل بين التجربة النبوية وأية تجربة أخرى، فتلك التجربة لن تتكرر؛ لأن للزمان قوله الحاسم في الحراك البشري، ولا يمكن أن تزعم أية تجربة أنها تمثّل التجربة النبوية التي صحبها نزول الوحي والنشأة الأولى للإسلام. وبناءً على هذا الرؤية.. علينا أن نقرأ النظرية والتطبيقات لجماعات الإسلام السياسي. وهو تيار لم يسلك طريقاً واحداً إلى الحكم، بل طرق عدة؛ منها: صناديق الانتخاب.. كمصر والأردن والمغرب. والعنف.. كالقاعدة وشباب الإسلام وبوكو حرام. والانقلاب.. كالسودان. والثورة.. كإيران. هذا ملخص مكثّف للمسار السياسي في الإسلام، وهاكم إيضاحه.

- التوجه الانتخابي.. وبغض النظر عمّا قيل عن نواياه تجاه الديمقراطية والجدل حول برامجه السياسية وتطبيقاتها، فإنه مارس عملاً انتخابياً، شُهِد بنزاهته في معظم الأحوال. العديد من دول المنطقة شهدت مشاركة الإسلاميين في العملية الانتخابية، مثل: مصر والأردن والكويت والمغرب والجزائر. والنتيجة.. أنهم أزيحوا عن الحكم في الجزائر ومصر، وتراجعوا في البقية. ولم يتمكنوا من الخروج بالدولة من مشكلاتها اليومية وأزماتها المستديمة، لأسباب؛ بعضها يعود لعمق الدولة وبنية المجتمع، وبعضها للتحديات الخارجية، وبعضها للأحزاب ذاتها، وبنظري.. أن عدم قدرة هذا التوجه أن يثبت وجوده عائد إلى تجاوز الزمن لرؤيته ومناهجه وأدواته.

- جماعات العنف.. وفي مقدمتها القاعدة، بدأت توجهها نحو تحقيق الخلافة من السبيل الذي يرفضه أغلب المسلمين، قبل سواهم، فأعمالهم تحقق أهداف غيرهم، ويذهبون هم والمجتمع ضحايا فكر عبثي، ولن تقوم له قائمة. ولذلك.. لم تستطع أن تُوجِد هذه الجماعات لها عمقاً شعبياً بين المسلمين، وحاضنتها الشعبية محدودة وفرتها تقنيات التواصل الاجتماعي أكثر من التمدد الاجتماعي. ولأن العنف من طبيعة البشر فلن تختفي جماعات العنف، وإنما ستظهر بين الحين والآخر بسبب معتقدات التشدد واستبداد الأنظمة والاستغلال الدولي.

- الانقلاب.. حيث وصل الإسلام السياسي للحكم في السودان عبر انقلاب مهّد له انقلاب قبله، فقد كان سودان الثمانينات يئن تحت وطأة آليات الحكم العسكري لجعفر النميري، ولم يخلّصهم منه إلا المشير سوار الذهب ذو التوجه الإسلامي عام 1985م بعد احتجاجات عمّت الشارع السوداني، ليصل «حزب الأمة» عام 1986م للحكم عبر الانتخابات، وفي 1989م انقضّ العميد عمر البشير من «الجبهة الإسلامية» على الحكم باسم «ثورة الإنقاذ»، وظل ممسكاً بمقاليده حوالي ثلاثة عقود عن طريق «حزب المؤتمر الوطني»، وفي 2019م.. أطاحت به وبنظامه ثورة شعبية عارمة.

- الثورة الإيرانية.. قادها روح الله الخميني، وهي الثورة الوحيدة من تيار الإسلام السياسي نجحت في الوصول للحكم، وحكمت إيران منذ 1979م بـ«نظرية ولاية الفقيه» باسم «الجمهورية الإسلامية»، وقد استمرت حتى الآن رغم التحديات العالمية التي واجهتها. وبعيداً عن تقييم مسار الثورة؛ فهي لم تحظَ بالقبول الفكري والسياسي المطلوب بين عموم المسلمين بسبب تصاعد الخلاف المذهبي، ودخول المنطقة في حروب عسكرية طاحنة، كما استطاعت أمريكا وحلفاؤها فرض حصار اقتصادي طويل المدى على إيران، أثّر بشدة على بنية الدولة والمجتمع فيها. كل هذا يجعل نموذج ولاية الفقيه غير قابل للتمدد، وأظن أن إيران الدولة الراسخة ستفكر ملياً للانتقال من هذا الوضع باتجاه نظام آخر؛ أوسع مشاركة شعبية وأكثر تنوعاً سياسياً.

وهكذا نرى أن تجارب الإسلام السياسي أدت ما استطاعت إليه سبيلاً، ولا يمكن نكران أنها أثّرت بقوة في المنطقة، ولعبت دوراً لولاه لكان وضع العالم الإسلامي مختلفاً عمّا نراه اليوم. ولكن زمنها انقضى كما انقضت أيام من سبقها من التيارات، فهذه سنة الله في الاجتماع البشري. والسؤال: هل بانتهاء دور الإسلام السياسي سيكف المسلمون عن ممارسة السياسة بالدين؟

بنظري.. لن يكفّوا لأمد طويل، وإنما نمط جديد من الممارسة السياسية سيقوم بينهم، لا ينتمي للإسلام السياسي، أسميه «السياسية الإسلامية المدنية»، وقد دشّنه «حزب العدالة والتنمية» التركي، وهو حزب يحتاج لقراءة متأنية. لكن أضع هنا بعض المؤشرات الدالة على تحوله؛ منها: إنه لم يأتِ ثورةً على النظام العلماني الذي سبقه، بل اعترف به، واعتمد أتاتوركَ رمزاً مؤسساً للدولة التركية الحديثة. وآمن بالديمقراطية وعمل بمقتضاها. وقوّى الدولة التركية ولم يعادِ قوميتها؛ بل أكد على مركزيتها، وربط بينها وبين الإسلام بجعل الخلافة العثمانية رمزاً سياسياً للمسلمين، وأنها وقفت ضد الغرب الصليبي. وتبنّى الحزب النظام الرأسمالي؛ مع محاولة تهذيب توحّشه بالقيّم الإسلامية. وعمل على التصالح مع القيّم الغربية، وسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولم يقطع علاقته بإسرائيل. ولم يستكِن للميكنة الغربية؛ بل دفع بتركيا لأن تكون مساهِمة إقليمياً في البناء السياسي والاقتصادي والعلمي والاجتماعي. هذا النموذج لا سابق له في تيار الإسلام السياسي، فربما تتبناه الأحزاب السياسية التي تعمل تحت التوجه الإسلامي؛ إن أرادت لنفسها البقاء والمشاركة السياسية.

و«حزب النهضة» التونسي سائر في هذا الطريق، ولكنه متعثر، مما تشيء الأحداث الحالية بتفككه، وهذا لا يعني انتهاء التوجه الإسلامي من تونس، وإنما هناك احتمال أن يولد حزب ينتمي لـ«ما بعد الإسلام السياسي»؛ أي لتيار «السياسة الإسلامية المدنية».

* باحث عماني مهتم بالقضايا الفكرية والتاريخية ومؤلف كتاب "السياسة بالدين".