مسارات البحوث والتطوير في عُمان

09 ديسمبر 2023
09 ديسمبر 2023

تُعَّد البحوث والدراسات أحد أهم الموارد العلمية التي تُسهم في تطوير الإنتاج وحل المشكلات من ناحية، ودعم الإبداع والابتكارات في عمليات الإنتاج الفنية والتقنية والمعرفية من ناحية أخرى، ولهذا فإن أهميتها تكمن في اعتبارها موردا أصيلا في الاقتصادات الوطنية ومساهما مباشرا في التنمية البشرية والمعلوماتية التي تقدِّم آفاقا واسعة للتنافسية والتطوير وإعادة صياغة سياسات الإبداع.

وعلى الرغم من أن أهمية الدراسات وعلاقتها بالتطوير والتنمية عُرفت منذ عقود طويلة إلا أنها تزداد في ظل الاهتمام بالاقتصادات المعرفية، والاعتماد عليها في أعمال التنمية واستدامتها، ولهذا فإن دول العالم تعتمد على المراكز البحثية والاستثمار في البحوث والدراسات؛ لتحقيق الأهداف التنموية التي تعتمد على العديد من نتائج تلك البحوث وتمويل المشروعات والابتكارات التي تقدمها تلك الدراسات، من أجل تطوير القطاعات التنموية بما يتوافق مع الاحتياجات والأولويات الوطنية، و يتناسب مع التطلعات الإقليمية والعالمية.

ولقد اهتمت سلطنة عُمان اهتماما واسعا بالبحوث والدراسات، سواء من خلال دعم المراكز البحثية التخصصية أو تمكين المؤسسات للقيام بالبحوث والدراسات التي تطوِّر من عملها، وتدفع بالمشروعات التنموية التي تسِهم في تطوير القطاعات الحيوية وتحقيق أهدافها بما يتواكب مع المستهدفات والمؤشرات التي تسعى إلى بلوغها، ولهذا فقد ورد تنفيذ الدراسات والبحوث ضمن اختصاصات العديد من المؤسسات الحكومية التي عليها أن تقدِّم ما يُسهم في تطوير عملها وتنميته، وتيسير الخدمات التي تقدمها للمستفيدين بأفضل الطرق وأكثرها تطورا وفاعلية.

قدَّم المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في أغسطس الماضي تقريرا بشأن (نتائج مسح البحث والتطوير في سلطنة عُمان لعام 2022)، وهو بحث يشمل - حسب المركز - (كل عمل إبداعي ومنهجي يُمارس بهدف زيادة رصيد المعارف، بما في ذلك المعارف الخاصة بالبشرية والثقافة والمجتمع، من أجل ابتكار تطبيقات جديدة من المعارف المتاحة)، ويشمل البحوث الأساسية، والتطبيقية والتجريبية، وهو مسح استهدف عينة تمثيلية للمؤسسات الخاصة الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، والمؤسسات الحكومية (الوزارات والمؤسسات الإدارية).

يكشف تقرير المسح زيادة عدد المشتغلين في البحوث والتطوير لعام 2022 ما بين المشتغلين (موظفي الدعم والفنيين) والباحثين ما بين (16298) مشتغلا، و(5203) باحثين، وتطوُّر المعدل السنوي للإنفاق على البحث والتطور التجريبي ما بين العامين (2021-2022) يصل إلى 23%، حيث ارتفع معدل الإنفاق من (98) مليون ريال عماني في عام 2021، إلى (121) مليون ريال عماني في عام 2022، وبالتالي تطوُّر في معدل إنفاق المؤسسات على مشروعات البحث والتطوير، بينما يتضح أن نسبة الإنفاق المحلي الإجمالي على البحث والتطوير في القطاعات تتراجع في القطاع الخاص ما بين (55%/2021)، و(34%/2022) وقطاع التعليم العالي ما بين (18.5%/2021)، و(14%/2022)، وترتفع في القطاع الحكومي ما بين (26%/2021)، و(51.8%/2022)؛ حيث بلغت نفقات القطاع الحكومي على البحث والتطوير (63) مليون ريال عماني بارتفاع بلغ (141%) مقارنة بالعام 2021.

إن هذا الإنفاق المتزايد يكشف الأهمية الاستراتيجية للبحوث والدراسات في تطوير عمل القطاعات الحيوية، والقطاعات الإنتاجية التي تعوِّل عليها الدولة، الأمر الذي يحتاج على الدوام إلى تقييم ومراجعة بما يتفق وقدرة المؤسسات على تنفيذ توصيات ونتائج تلك البحوث من ناحية، وإمكانات تلك البحوث وقدرتها على إحداث التطوير المنشود؛ فالأهم من تنفيذها هو تطبيق نتائجها وإجراء توصياتها، إضافة إلى مدى إسهامها في الإنتاج الإبداعي ودعم الابتكار وتطوير الإنتاج.

ولقد جاء في الخطاب السامي لجلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه - الذي ألقاه في نوفمبر الماضي خلال افتتاح الدورة الثامنة لمجلس عُمان، قوله ـ أعزَّه الله ـ: (إننا إذ ننظر إلى المؤسسات التعليمية والمراكز البحثية والمعرفية بجميع مستوياتها على أنها أساس بنائنا العلمي والمعرفي ومستند تقدمنا التقني والصناعي؛ لنؤكد على استمرار نهجنا الداعي إلى تمكين هذا القطاع...)، وهو ما يؤكد النظرة الثاقبة الحكيمة لأهمية البحوث والدراسات والمراكز المتخصصة في التطوير المعرفي، الأمر الذي يكشف من ناحية أخرى ذلك الاهتمام المتزايد بها.

إن تأكيد جلالته - حفظه الله ورعاه - على ارتباط التعليم ومراكز البحث والمعرفة بالبناء والتقدم التقني والصناعي، يقدِّم رسالة واضحة على قدرة مخرجات تلك المؤسسات على التطوير والتنمية في مختلف القطاعات ، وهي قطاعات مرتبطة بما تسعى إليه الدولة من تسريع في التنمية التقنية والتطورات التكنولوجية التي تدعم الإنتاج الصناعي، وتسهِّل عملياته، وتمكِّن قدرة القطاعات على حل المشكلات وتقديم المقترحات الداعمة لتحقيق أهدافها وتنميتها واستدامتها.

ولهذا فإن استمرار دعم القطاع البحثي بمستوياته المتعددة يشكِّل أهمية من حيث الدور التنموي الذي يقدمه؛ فالبحوث والدراسات تؤثر على المكانة والقدرة التنافسية للمؤسسة بما يدعم قدرتها على الإبداع والابتكار، ولهذا سنجد أن المؤسسات اليوم تقدِّم مجموعة من الدراسات التي تسهم في تحسين أدائها، وتطوير نوعية المنتجات وكفاءتها سواء أكانت منتجات معرفية أم خدمية أم تقنية أم استهلاكية، فكلها منتجات تقدِّم المؤسسة باعتبارها قادرة على التطوير بما يتناسب واحتياجات المجتمع والأفراد، وتطلعاته في المستقبل.

فالابتكار والتطوير يرتبط مباشرة بالبحوث والدراسات التي تقوم بها المؤسسة، وقدرتها على تنفيذها والاستفادة منها، وبالتالي فإن هذه البحوث لا تعد إضافة مهمة للمحتوى الرقمي والمعلوماتي بشأن المجالات والظواهر التي تدرسها وحسب، بل أيضا تقدِّم مجالا واسعا للتطوير والتنمية للقدرة التنافسية للمؤسسة، وتسهم في تخفيض التكاليف وابتكار طرائق جديدة وأساليب متطوِّرة لتفادي هدر الموارد واستخدام التكنولوجيا والتقنيات الحديثة التي تساعد في مضاعفة الإنتاج، بل إنها تقدِّم حلولا للعديد من التحديات التي تواجه تحقيق أهداف المؤسسة أو المؤسسات الأخرى التي تُشرف عليها.

لقد أكدت كلمة جلالة السلطان ـ أعزَّه الله ـ أهمية المراكز البحثية بين القطاعات (العلمية، والمعرفية، والتقنية، والصناعية). الأمر الذي يقدِّم تلك الإمكانات التي يُنتظر من هذه المراكز الإسهام فيها، والعمل على توظيفها التوظيف الأمثل، فالبحوث والدراسات يجب أن تُؤِّسس القاعدة الرئيسة التي تعتمد عليها لتطوير قدرتها التنافسية من ناحية، وتطوير عملها وتنميته باعتبارها أساسا يكشف ثغرات التطوير ويُسهم في البناء وتخطي التحديات.

إن الدراسات والبحوث التي تقوم بها المؤسسات والمراكز البحثية التخصصية لها أهمية تنموية بوصفها (أساسا) للتطوير، وهذا التطوير لا يشمل أساليب العمل والإنتاج وحسب، بل أيضا المساهمة في التنمية البشرية للقدرات الوطنية، وتماسهم المباشر وتفاعلهم مع التحديات الواقعية التي تواجهها المؤسسات وآفاق تطوير العمل، إضافة إلى اطّلاعهم على المنهجيات والآليات التي يمكن أن تفضي إلى نتائج وتوصيات قابلة للتطبيق للعمل عليها وفق متطلبات التطوير والتنمية.

ولهذا فإن دعم البحوث بمختلف أنواعها يُعد من الضرورات الأساسية التي تقوم عليها التنمية والتطوير المؤسسي والتنموي في مختلف القطاعات ، وكلما كانت هذه البحوث قابلة للتطبيق، وقادرة على تعزيز مكانة الإبداع والابتكار، أفادت منها تلك القطاعات؛ لأنها ستوفر لها إمكانات لتعزيز قدرتها التنافسية من خلال تحسين منتجاتها سواء أكانت معرفية أم تقنية أم غير ذلك، وبالتالي فإن تمكين البحوث والدراسات، يعد أحد أهم مرتكزات التنمية المستدامة.

إن علاقة البحوث بالتطوير ليست طارئة وإنما قاعدة أساسية تربط بينهما؛ ذلك لأن البحوث ليست للأدراج وليست لحصر الاقتباسات، إنما هي نافذة للتطوير الفعلي، وقدرة معرفية مساهمة في البناء المعلوماتي ودعم مجتمع البيانات، إضافة إلى كونها ممكِّنا للقوة التنافسية وعاملا رئيسا لتعزيز مكانة القطاعات الاقتصادية والمعرفية في الدولة، ولهذا فإن التعاون والشراكات البحثية بين مختلف المؤسسات يُعد داعمًا رئيسًا لتعزيز تلك المكانة.

عائشة الدرمكية: باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة