مراكز الفكر
مراكز الفكر (Think Tanks) بحسب تقرير مؤشر مراكز الفكر العالميّة (2020) هي مؤسسات تُعنى بالبحث والتحليل والمشاركة في السياسات العامة، وتنتج بحوثًا وتحليلات وتوصيات موجهة نحو السياسات في القضايا المحليّة والدولية، مما يُمكّن صُنّاع القرار من اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن السياسات العامة. وقد تكون هذه المؤسسات تابعة أو مستقلة، وتُنشأ كهيئات دائمة لا كلجان مؤقتة. وغالبًا ما تعمل كجسر يربط بين الأوساط الأكاديمية وصانعي السياسات وبين الدول والمجتمع المدني، وتخدم المصلحة العامة بصفتها صوتًا مستقلاً يترجم الأبحاث التطبيقية والأساسية إلى لغة مفهومة وموثوقة ومتاحة لصُنّاع القرار والجمهور. ففي عالم تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه السياسات بشكل لافت، تبرز أهمية وجود مراكز الفكر كعقول استراتيجية تُوجّه صُنّاع القرار وتُعيد رسم خرائط السياسة والاقتصاد حول العالم. وترتبط مراكز الفكر بعلاقات وثيقة مع وسائل الإعلام والباحثين لتعزيز الوعي العام بالقضايا الحيوية.
وفي هذا السياق، أسهمت مراكز مثل معهد بروكينغز الذي تأسس في عام 1916م ومؤسسة التراث الذي تأسست في عام 1973م في الولايات المتحدة الأمريكية، والمعهد الملكي للشؤون الدولية في المملكة المتحدة الذي تأسس في 1920م، في توجيه قرارات وسياسات اقتصادية ودولية مهمة.
وقد أشار تقرير مؤشر مراكز الفكر العالميّة إلى أنّ مراكز الفكر تتباين في طبيعتها تبعًا لدرجة استقلالها والجهة التي تمولها. فالمراكز المستقلة تتميز بحرية فكرية وتمويل متنوع يمنحها قدرة على تحليل القضايا بموضوعية واقتراح سياسات بديلة تخدم المصلحة العامة، مثل مركز بروكينغز وتشاتام هاوس. أما المراكز التابعة للحكومات أو الجامعات فتعمل ضمن أطر مؤسسية محددة، حيث تقدم المراكز الحكومية الاستشارات لصنّاع القرار، بينما تجمع المراكز الجامعية بين البحث الأكاديمي والتطبيق العملي للسياسات. وبشكل عام، يكمن الفرق الجوهري بين النوعين في مستوى الاستقلالية فالمراكز المستقلة تركز على المعرفة الحرة، في حين ترتبط المراكز التابعة بأهداف الجهة التابعة لها.
أما مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فهي مركز فكري عالمي يتخذ من واشنطن مقرًا رئيسًا ويمتلك فروعًا في مناطق مختلفة من العالم، ما يجعله منصة رائدة للحوار حول قضايا الديمقراطية والتنمية والسلام، أما في السويد، يُعدّ معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) من أهم المؤسسات البحثية المتخصصة في قضايا نزع السلاح والأمن الدولي، إذ يزوّد الحكومات والمنظمات الدولية ببيانات وتحليلات تُسهم في تعزيز السلام العالمي.
وتُسهم مراكز الفكر في العالم العربي بدور متنامٍ في تحليل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وصياغة السياسات العامة. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، يبرز مركز الإمارات للسياسات الذي تأسس في عام 2013م كمؤسسة بحثية تُعنى بدراسة القضايا الإقليمية وصنع القرار الاستراتيجي. وفي المملكة العربية السعودية، يُعدّ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الذي تأسس عام 1983م من أبرز المراكز الفكرية التي تجمع بين البحث الأكاديمي والدبلوماسية الثقافية. أما في جمهورية مصر العربية، فإنّ مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الذي تأسس في عام 1968م، يُعدّ من أقدم المؤسسات العربية المتخصصة في تحليل الشؤون الإقليمية والعلاقات الدولية. وتمثل هذه المراكز نموذجًا عربيًا لمؤسسات الفكر التي تسعى إلى الربط بين البحث العلمي وصناعة القرار في بيئاتها الوطنية والإقليمية.
وقد أشار تقرير مؤشر مراكز الفكر العالميّة إلى أن مراكز الفكر تواجه على المستويين العالمي والعربي تحديات متزايدة تتعلق بالحفاظ على الاستقلالية الفكرية في ظل الضغوط السياسية والتمويل المشروط، إضافة إلى صعوبة تحقيق تمويل مستدام يضمن استمرارية البحث بعيدًا عن التأثيرات الخارجية. كما تعاني من محدودية الوصول إلى صُنّاع القرار وضعف التأثير في السياسات العامة، إلى جانب التحدي المتسارع المتمثل في الثورة التقنية المتسارعة التي تفرض ضرورة التكيّف مع أدوات الذّكاء الاصطناعيّ وتحليل البيانات الضخمة. ومع ذلك، تبرز فرص مهمة أبرزها التحول الرقمي في البحث والتحليل الذي يوسّع نطاق الوصول والتأثير، وتزايد أهمية الفكر الاستراتيجي في مواجهة الأزمات العالمية والإقليمية المعقدة.
عليه، تبرز مراكز الفكر كأدوات هامة لصناعة القرار الحكيم المبني على المعرفة والتحليل العميق. فهي تُسهم في استشراف المستقبل وتقديم رؤى تساعد الدول على مواجهة التحديات بوعي واستباق الأزمات ببدائل مدروسة. وتمثل هذه المراكز جسرًا بين البحث العلمي والواقع العملي، مما يجعلها عنصرًا أساسيًا في دعم التنمية والحوكمة الرشيدة. إنّ الحاجة إليها اليوم أشد من أي وقت مضى، فالأمم التي تستثمر في الفكر والبحث هي القادرة على رسم مستقبلها بثقة. لذا، تبقى مراكز الفكر بوصلة المستقبل التي تُرشد صُنّاع القرار إلى طريقٍ أكثر وعيًا واستدامة.
عارف بن خميس الفزاري باحث في المعرفة
