«مرآب الابتكار»... أقصر الطرق إلى «عرين التنين»

30 أبريل 2024
30 أبريل 2024

يُعد الابتكار محركًا رئيسيًا للنمو وتعزيز القدرة التنافسية، ومع ذلك، ليست كل جهود الابتكار ناجحة، وقد يكون الفشل مكلفًا للشركات الناشئة والقائمة على التكنولوجيا بالمقارنة مع الشركات الابتكارية الأخرى، فالابتكار مصطلحٌ واسع جدًا؛ إذ يمكنه أن يشمل امتلاك المعرفة والمهارة والإبداع لتطوير أفكار ومفاهيم مبتكرة حقًا، أو قد يعني أيضًا امتلاك كفاءات ومواهب لحل المشكلات العميقة والمتشعبة بكفاءة عالية وبعيدًا عن النهج التقليدي.

وتكمن جذور النقاش الدائر حول نجاح أو إخفاق الابتكار في القدرة على توظيف الذكاء المشترك أو المعرفة الجماعية، فمعدل الذكاء الفردي هو في الأصل ميزة فردية يمكن أن يتغير بالتجربة، والعامل الحاسم هنا هو مدى الإدراك بأنه قد انتهى عصر الابتكار الفجائي والفردي، وأن معظم الابتكارات التكنولوجية الرائدة هي حصيلة جهود تعاونية وتراكمية تشمل شبكة واسعة من أصحاب المصلحة، بدءًا من وحدات البحث والتطوير، والمختبرات العلمية والأكاديمية، وطلبة الدراسات العليا، والمؤسسات المانحة للتمويل، وانتهاءً بالمستثمرين والقطاعات الإنتاجية، وعموم مجتمع المستفيدين.

ولأجل ذلك تعددت أدوات تعزيز الشراكة المثمرة بين جميع الفاعلين، فما أحدث التوجهات العالمية في تعزيز الذكاء الجماعي المؤدي للابتكار؟ وهل يمكن لهذه المسارات الحديثة أن تقلل من احتمالات تعثر أو فشل شركات التكنولوجيا ذات المخاطر العالية؟

دعونا في البدء نتعرف إلى أبرز الأمثلة العالمية من حيث تراجع أداء شركات الابتكار التكنولوجي، إذ يمكننا أن نتعلم من قصص الفشل دروسًا أعمق من تلك التي نجدها في التجارب اللامعة، وتأتي اليابان كأحد أهم الحالات؛ إذ كانت الصناعة اليابانية ذات يوم تقود العالم في مجالات البحث والتطوير والابتكار، وقد تراجع تصنيفها العالمي فيما يرتبط بنمو الإنتاجية، وتوليد الملكية الفكرية، على الرغم من استمرار الإنفاق المرتفع على البحث والتطوير، وكذلك مواصلة قطاع التصنيع في تحقيق مستويات الجودة المطلوبة والتحسينات المتسقة، ويعود الفضل إلى الثقافة المؤسسية العريقة للشركات اليابانية التي تستند إلى التخطيط الدقيق، وتلتزم ببناء الميزة التنافسية المستدامة مع الاهتمام بالتفاصيل، مما مكَّنها من إدارة التعقيدات التقنية والعملية بفعالية كبيرة، وخاصة بالنسبة للمنتجات التي تدمج العديد من المكونات والأنظمة ذات واجهات وتبعيات معقدة، كما هو الحال في قطاع السيارات. ومع ذلك، فإن الاقتصاد يتغير بسرعة مذهلة، والتقنيات المتقدمة مثل التحليلات الرقمية والروبوتات وأجهزة الاستشعار والأتمتة، والتي كانت يومًا ما مجرد مصطلحات علمية طنانة صارت واقعًا ملموسًا، وغيرت ملامح الإنتاج، وجميع جوانب الحياة، وفي ظل هذه البيئة الديناميكية فإن الأساليب التقليدية التي ساعدت الشركات اليابانية على تحقيق مواقعها الرائدة في السابق ربما لم تعد كافية.

وتشير القراءات التحليلية إلى أن اغتنام الفرص الناتجة عن الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة للثورة الصناعية الرابعة، والمدارس الفكرية الحديثة في إدارة الابتكار هي ركائز أساسية في إعادة تشكيل الاتجاهات الكبرى للصناعات الاستراتيجية التي من خلالها يمكن تحقيق الصدارة، وهي لا تتأتى إلا بالشراكة التي تدعم الابتكار من خلال ثلاثة أبعاد وهي: توفير المدخلات اللازمة للبحث والتطوير مما يقلل من الفترة الزمنية لإنتاج الأفكار الابتكارية القابلة للاستغلال التجاري، وبذلك تتيح لهم الوقت الأقصر لاكتساب القيمة السوقية، والحصول على الميزة التنافسية التي هي بمثابة محرك الانتقال بسلاسة من النموذج الأولي إلى الإنتاج التجاري. والتحدي الأبرز الذي واجه الشركات اليابانية كان يكمن في ندرة المواهب الداخلية للشركات التكنولوجية مع عدم وجود الجاذبية في استقطاب الكفاءات الخارجية، وتحديات المواهب في اليابان متعددة الأوجه؛ فمنها ما يعود لأسباب ديموغرافية منشأها ازدياد معدل الشيخوخة الذي يقلل من عدد الكفاءات المهنية المتوفرة على رأس العمل، والسبب الآخر يعود إلى حقيقة أن إعداد المهندسين وموظفي البحث والتطوير يستغرق سنوات لتطوير مهاراتهم العلمية والتقنية، مما يجعل الأمر أكثر صعوبة على الشركات التي تتطلع إلى مواصلة تميزها العلمي والابتكاري وعبور المرحلة الانتقالية في إحلال كبار موظفي البحث والتطوير بسلاسة، وهذا التحدي في الواقع قد ينشأ في أي منظومة بغض النظر عن الظروف السكانية، ولذلك تسعى معظم دول العالم إلى تطوير استراتيجيات الموارد البشرية والتوظيف في تخصصات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والابتكار، وذلك عبر وضع خطط ممنهجة في ملء الأدوار الفارغة، أو تحفيز تكاملها مع فرص مماثلة للذكاء الاصطناعي، لضمان عدم نشوء تدهور مفاجئ، أو التعرض لهزات غير محسوبة بسبب خروج الكفاءات العلمية والهندسية من المنظومة.

وهذا يقودنا إلى النقطة الأساسية وهي أهمية تضمين الشراكة بتوجيه مختلف الأدوات والمنهجيات من أجل تحقيق الدرجة المطلوبة من الذكاء الجماعي، فشركات التكنولوجيا تحتاج إلى ذلك المزيج المتعادل من الخريجين ذوي الطموح والإمكانات العلمية العالية، والذين ينجذبون بشكل تلقائي ومتزايد إلى المجالات العصرية مثل الذكاء الاصطناعي، وإلى خبرة الباحثين والمبتكرين الذين يمثلون الأدوار التقليدية في الهندسة والعلوم.

وظهر في الأوساط مؤخرًا مصطلح مرآب الابتكار (Innovation Garage) والذي أصبح أحد أهم الممارسات التشاركية في الأوساط الابتكارية على مستوى الأقسام الأكاديمية لمؤسسات التعليم العالي، وكذلك في الجيل الجديد من شركات الابتكار التي تعمل على اتجاهات وتقنيات المستقبل، وفيها يجتمع الطلبة والأكاديميون، وموظفو البحث والتطوير من جميع مجالات العمل ومستوياتها، ويشكلون فرقًا متعددةً التخصصات، بحيث يعمل المبتكرون الشباب جنبًا إلى جنب مع مهندسي المشاريع من ذوي الخبرة الطويلة والغنية، ويتعلمون معًا طرقًا جديدةً للابتكار، حيث تتمثل الفكرة من مرآب الابتكار في الابتعاد كليًا عن النهج التقليدي لجلسات النقاش والمختبرات وحلقات العمل، ومسابقات الهاكثون، وبدلًا من ذلك يقوم الفريق بالتركيز على القضايا الملحة من منظور تشاركي بحت كمجموعة تكنولوجية متنوعة بلا تصنيفات وظيفية هرمية، مما يسمح بتوليد مفاهيم وحلول ومنتجات جديدة من المعرفة الجماعية المتاحة، ويضعها موضع التنفيذ بسرعة؛ لأن طريقة التفكير المختلفة عن المناهج التقليدية تجعل من مخرجات مرآب الابتكار بمثابة الإجابات التي يبحث عنها متخذي القرار، والمستثمرين، وهذا ما يخلق الطلب على المزيد من الأفكار الابتكارية.

وقد بدأت شركات الابتكار التكنولوجي في معظم دول العالم في تبني وتأصيل ممارسة مرآب الابتكار في الشركات الناشئة ذات التركيز على التقنيات المتقدمة، وتم إشراك المستثمرين لحضور معارض مخرجات هذه الممارسات وذلك لاستقطاب التمويل الكافي للأفكار الطموحة والخارجة عن المسارات المألوفة، حيث إن ما يميز هذه الممارسة هو أن الهدف من تنفيذها هو الوصول إلى جوهر المشكلة الذي يعد هو أصعب من وضع الحلول المقترحة، إذ يمكن لأي مبتكر أن يحاول إيجاد حل للتحدي، وفي كثير من الأحيان، يبدأ الباحثون والمبتكرون في البحث عن حلول دون النظر بتمعن إلى المشكلة من زوايا مختلفة، ثم إعادة تشكيل التحدي حسب المعطيات والاتجاهات المتاحة، وهذا ما يرفع من جدوى ممارسات مرآب الابتكار التي تتيح التكامل والتعاون بين الشركات الناشئة والأوساط الأكاديمية والشركاء الخارجيين، وهذا التعاون هو محورٌ بالغ الأهمية لتقليل مخاطر الفشل؛ نظرًا لوجود العديد من تجارب الابتكار التي أخفقت منذ البداية بسبب تركيزها على الموارد والأفكار الداخلية لفرق العمل مما تسبب في محدودية الخيارات الاستراتيجية المتاحة لمتخذ القرار.

إن تبني الممارسات الحديثة، ومواكبة التجارب العالمية قد أصبح ضرورة لازمة لجعل أنشطة البحث والتطوير أكثر كفاءة وفعالية، ويمكن للتقنيات الرقمية أن تساعد الشركات الناشئة على تعزيز تبادل المعلومات بين الفرق المختلفة، وتوليد الأفكار القادرة على إتاحة فهم أعمق للتحديات، ومعالجة الاختناقات الرئيسية التي تعوق الجهود التطويرية والابتكارية، وتتمثل الخطوة الأولى في إنشاء رؤية وخريطة طريق في تعزيز الذكاء الجماعي المؤدي للابتكار هو تبني المرونة والمنهجيات الرشيقة في إدارة ملف التطوير التكنولوجي التشاركي، وتأصيل الممارسات المعاصرة مثل مرآب الابتكار كفلسفة تنظيمية وليست فعالية موسمية، ويتطلب ذلك نهجًا أكثر تعاونًا وتكاملًا في حل المشكلات، وصناعة القرارات الحاسمة مثل إدارة تمويل البرامج البحثية والتطويرية؛ لأن التعقيد وعدم اليقين المتأصل في أنشطة التطوير التكنولوجي يضع جدوى وفعالية استثمارات البحث والتطوير دائمًا في المحك، وهنا تظهر الحاجة إلى تبني أدوات الشراكة الفعالة التي تخفف عبء اتخاذ قرارات التمويل من كاهل الشركات التكنولوجية لوحدها، ويصبح للمستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال المغامرة دور أكثر وضوحًا، عوضًا عن المنهج المعتاد الذي تقوم فيه وحدات البحث والتطوير بإعداد المقترحات والذهاب إلى «عرين التنين» - كما يُطلق على مستثمري الابتكار والتكنولوجيا - للبحث عن التمويل، فإنه قد أصبح من الممكن دعوة أصحاب رؤوس الأموال المغامرة لحضور جلسات مرآب الابتكار، والمشاركة في صناعة قرار التمويل، وتسريع تنفيذ الأفكار ذات القيمة العالية، فضلًا عن توفير الموارد للابتكارات الجديدة ذات الإمكانات الواعدة، ففكرة مرآب الابتكار هي في الأصل محاكاة لبيئة وثقافة الابتكار النموذجية من خلال البناء على أحدث مفاهيم الشراكة المثمرة، والتفكير التصميمي، والرشاقة الاستراتيجية.