مُدن الابتكار الغذائي .. رؤى وأطروحات

31 يناير 2023
31 يناير 2023

في عام 2019 توصل العالمان يوهان روكستروم وبافان سوخديف من معهد ستوكهولوم لدراسات التكييف والمرونة إلى نموذج يعكس تمحور أهداف التنمية المستدامة حول الغذاء، كمقاربة لفهم العلاقة بين الغذاء والتنمية، أُطلق على النموذج اسم «كعكة الزفاف»، حيث جاءت أربعة أهداف في الجزء القاعدي، وتدور ثمانية أهداف إنمائية في الجزء الأوسط، ثم أربعة أهداف في الطبقة الأخيرة، وهدفٌ أخير على القمة لتكتمل طبقات كعكة الزفاف بسبعة عشر هدفًا، وقد لاقى هذا النموذج قبولاً كبيرا في الأوساط العلمية والمعرفية والإنمائية لكونه أول أنموذج يعزز مركزية قضايا الغذاء في التنمية المستدامة.

وتتصدر محاور توظيف التطور العلمي والابتكار التكنولوجي في الغذاء الأجندات التنموية في جميع دول العالم، مع الأخذ في الاعتبار أن تطور علوم وتقنيات الغذاء صار مرتبطا بالعديد من الحقول التقنية والمعرفية والثقافية، وأصبحت التقسيمات التي تفصل بين علوم الغذاء وغيرها من التخصصات غير موجودة في وقتنا الحالي، وعلى الرغم من أن العديد من الدول المتقدمة في مؤشرات الابتكار العالمية قد تمكنت من تحقيق التقدم العلمي المطلوب لدعم قضايا الغذاء، إلا أن دول الاتحاد الأوروبي قد تفوقت في هذا الشأن وتعتبر وجهةً لموضوعات الاستدامة، وعاصمةً للابتكار الغذائي في العالم.

إذن ما هي أبرز ملامح العمل الاستراتيجي الذي أكسبت أوروبا هذا السبق العالمي؟ وكيف يمكن للاقتصاديات الناشئة استنباط محاور للانطلاق نحو فرص النمو المستقبلية؟ دعونا نبدأ بمحور البحث والتطوير والابتكار في قطاع صناعة الغذاء الأوروبية، إذ بادرت أوروبا بإنشاء مدن الابتكار الغذائي تزامنا مع انتشار الحدائق العلمية والتكنولوجية، ففي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي ظهرت «الثورة الخضراء» التي كانت تسعى نحو التصنيع الغذائي صديق البيئة، سرعان ما تغيرت مع الوقت إلى مسمى «الثورة دائمة الخضرة» للإشارة إلى أهمية اتباع الإنتاجية المستدامة، وتضمين الابتكار والمعرفة التكنولوجية وكذلك المعرفة التقليدية، مع الأخذ في الحسبان موضوع تغير المناخ وتذبذب أسعار الطاقة وتوالي الثورات التكنولوجية، وتشير الإحصاءات إلى أنه ما إجماله ثلاثة مليارات يورو يتم ضخها سنويا في تطوير القطاعات الغذائية الرائدة التي هي في قائمة الصادرات، مع التركيز على تنفيذ أولويات الصفقة الخضراء للاتحاد الأوروبي، التي تستهدف عدة مسارات استراتيجية وهي؛ حماية الموارد الطبيعية ورفع إسهام قطاع صناعة الغذاء في تحقيق أوروبا للحياد الكربوني بحلول عام 2050، بانتهاج تكنولوجيات الإنتاج الذكية وعالية التقنية، مع رَقمَنة واسعة النطاق وسريعة الخطى على طول سلاسل القيمة وسلاسل الإمداد الغذائي، وذلك في مبادرة ضخمة أُطلق عليها «السلاسل الذكية»، مع استقطاب المزيد من الشركات الصغيرة والمتوسطة القائمة على التكنولوجيا، وذلك بدعم من منصة التكنولوجيا الأوروبية «الغذاء من أجل الحياة»، مع فتح خيارات إضافية للاستثمار من القطاع الخاص عبر النهج التعاوني والشراكات الاستراتيجية.

وبذلك تم تصميم برامج الاتحاد الأوروبي الإطارية لدعم البحث والتطوير والابتكار في التصنيع الغذائي، وتعزيز القدرة على الابتكار والتنافسية، وعلى رأسها هورايزون يوروب وهو البرنامج الرائد للمفوضية الأوروبية في دعم البحث والتطوير الموجه للابتكار المستدام، كما استهدفت البرامج الإطارية تعزيز السياسات الداعمة لجذب الاستثمارات الضخمة، عبر ترسيخ الثقة في الاستثمار التجاري في الحلول الابتكارية الجديدة، وإزالة الاختناقات التنظيمية، مع تعزيز قطاع الغذاء ليصبح أكثر قابلية للتنبؤ والاستشراف بما يقلل من هامش المخاطر الاستثمارية المحتملة، وتدعيم ركائز التخطيط والاستشراف الاستراتيجي كمسار رئيسي في وضع السياسات الاستباقية.

أدركت تجربة دول الاتحاد الأوربي أن صناعة الغذاء تتطلب وجود قوة عاملة ماهرة ومعززة بالكفاءات العلمية والتقنية، فقامت بربط متطلبات القطاع الصناعي والأعمال التجارية بمؤسسات التعليم العالي، لتحديد ومعالجة احتياجات المهارات الحالية والناشئة، من أجل دعم محاور الاستدامة والرقمنة والاقتصاد الحيوي، وتم إطلاق مشروع «تحالف المعرفة» ضمن مبادرة إيراسموس، وهي تجربة فريدة من نوعها تستحق القراءة واستخلاص الدروس المستفادة، إذ لم يتوقف الاهتمام ببناء المهارات والكفاءات القادرة على التفاعل مع التحديات والفرص الجديدة في قطاع الأغذية، عند إعداد خريجي الكليات والجامعات، وإنما تم تصميم برامج تدريبية مهنية للفئات العمرية الأكبر ضمن شريحة ربات البيوت أو غير العاملين والمتقاعدين، لتشجيع المشاركة في مسارات التعلم القائم على الخبرة والممارسة، وخلق المواءمة بين المعرفة الضمنية أو المعرفة التقليدية مع التقنيات المتقدمة.

ولا تزال أوروبا تقود العالم في مجال سلامة وجودة الغذاء، عندما أطلقت المفوضية الأوروبية استراتيجيتها «من المزرعة إلى الشوكة» أجمع الخبراء والمختصون أن الاتحاد الأوروبي يمثل المعيار الذهبي العالمي للأغذية المستدامة، إذ رسمت هذه الاستراتيجية مستقبل النظم الغذائية للعالم أجمع وليس لدول الاتحاد الأوروبي وحسب، كما أن الجهود البحثية الاستثنائية التي قامت بها الجامعات الأوروبية العريقة قد نجحت في مد الجسور المعرفية الوثيقة بين الغذاء والعلوم الاجتماعية والإنسانية، مما أكسب مواضيع الغذاء أبعاداً أخرى غير شائعة، مثل البعد الثقافي والجمالي والتاريخي.

وهذا يقودونا للجزء المحوري وهو: لماذا تصدرت التجربة الأوروبية على الرغم من أن التجارب العالمية الأخرى انتهجت مسارات مشابهة؟ إن التجربة الأوروبية تميزت بنجاحها في تأصيل مواضيع الغذاء في صميم أهداف التنمية المستدامة، لم تكتفِ بتشجيع تكنولوجيا وابتكارات الغذاء الحدائق العلمية، لكنها دعمت تشكيل التكتلات العلمية والتكنولوجية للغذاء على هيئة مدن متكاملة للابتكار الغذائي على غرار مفاهيم المدن الذكية، ووظفت مدن الابتكار كأدوات استراتيجية لتحقيق أهداف عليا مثل الحياد الكربوني وحماية الموارد الطبيعية والحيوية، وحفظ واسترداد المعرفة الضمنية والمعارف التقليدية في الغذاء.

إذا نظرنا بتمعن في تجربة الاتحاد الأوروبي نجد أن الدافع الحقيقي للصدارة العالمية هو قدرتها على تفعيل مدن الابتكار الغذائي، فالمعرفة التكنولوجية لم تتوقف عند حدود الابتكارات الغذائية، ولكنها عبرت القطاعات وألهمت العالم أن الغذاء وسيلة لدعم أطياف الاقتصاد المختلفة: الدائري والأخضر والأزرق والبنفسجي، وكذلك أن الغذاء أداة لتحقيق التقارب بين البشرية، ومستودع الثقافات والمعارف الإنسانية، بقدر ما هي قضية تنموية وبيئية وعلمية.