محاكمة إسرائيل... لماذا هي مهمة ؟

15 يناير 2024
15 يناير 2024

ليس من المبالغة في شيء، القول إن التطور المتمثل في رفع دولة جنوب إفريقيا دعوى قانونية أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل تتهمها فيها بممارسة جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة، والذي استمعت فيه المحكمة يومي الخميس والجمعة الماضيين11 و12 يناير الجاري لمرافعة الفريق القانوني لحركة حماس، والذي قدم مذكرة قانونية من 84 صفحة أمام محكمة العدل الدولية بسط فيها الأوجه المختلفة للدعوى والأسانيد والبراهين التي تستند إليها الاتهامات الموجهة إلى إسرائيل بها، وتضمنت عدة مطالب دعت المذكرة إلى مطالبة المحكمة بها تمهيدا للالتزام بها، ثم استمعت المحكمة إلى الرد الإسرائيلي من جانب رئيس الوفد الممثل لإسرائيل، ويأتي هذا الإجراء تمهيدا لخطوة بالغة الأهمية وهي ما إذا كانت المحكمة ستقرر قبول الدعوى إيذانا ببدء مباشرة إجراءات التقاضي المعروفة أمام المحكمة أو تقرر اتخاذ قرار برفض الدعوى؟ وهو ما تراهن عليه إسرائيل، حسبما أشار إليه ممثلها القانوني في مرافعته أمام قضاة المحكمة الخمسة عشر، والذين ينتمون إلى عدة دول من العالم، منها ثلاث دول عربية هي المغرب ولبنان والصومال.

ومن المعروف أن إسرائيل تدين بعضويتها للأمم المتحدة، إذ أنها أنشئت بموجب قرار تقسيم فلسطين في 30 نوفمبر 1947 إلى دولتين، هما فلسطين وإسرائيل، بالإضافة إلى إقليم القدس مستقلا، حيث تقرر أن يكون تحت سلطة حكم ذاتي وتديره سلطة أو هيئة مختلطة من فلسطينيين وعرب مكونة من خمسة فلسطينيين وستة يهود ويضم الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية واليهودية، ويكون لأبناء الديانات الثلاث الحق في الوصول دون عوائق إلى أماكن عباداتهم، وقد قبل الإسرائيليون هذه الصيغة، فلم يكن لهم وجود دولي معترف به قبل ذلك، أما العرب فقد رفضوها ومن ثم آل الوضع إلى ما هو عليه الحال الآن بعد نحو ستة وسبعين عاما من إنشاء إسرائيل، وأصبح حال العالم العربي أكثر تدهورا، ولا يسر عدوا ولا حبيبا كما يقال. وبالرغم من أن قضية فلسطين مدرجة أمام الأمم المتحدة منذ ما قبل إعلان إنشاء إسرائيل، إلا أن إسرائيل لها مواقف معروفة في معاداة الأمم المتحدة ومهاجمتها وانتقاد مواقفها، وبالطبع لم تنضم إلى نظام محكمة العدل الدولية خوفا من قرارات الأمم المتحدة التي تصدر لصالح القضية الفلسطينية، إلا أنه من المثير للانتباه أن إسرائيل التي عارضت أي دور للأمم المتحدة ورفضت من قبل أكثر من مرة دخول بعثة الأمم المتحدة إلى إسرائيل للوقوف على حقائق محددة بشأن قضايا لإسرائيل صلة بها، ومنها على سبيل المثال مذبحة قانا عام 1995 في جنوب لبنان، قد سارعت هذه المرة بإعلان أنها ستحضر المحاكمة في محاولة واضحة من أجل الرد قضائيا على دعوى جنوب إفريقيا التي حظيت بترحيب ودعم كبير على مختلف المستويات وبامتداد العالم برغم أن انتقادات عديدة وجهت إلى مواقف الدول العربية لأسباب معروفة. فإن محاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية -التي تتخذ من مدينة لاهاي مقرا لها- لها أهمية كبيرة، ليس فقط بالنسبة لفلسطين ومستقبل الشعب الفلسطيني، ولكن أيضا بالنسبة للنظام الدولي وللقضاء الدولي وللدور الذي يمكن أن يقوم به بالنسبة للسلم والاستقرار ولحل المنازعات بالطرق السلمية. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها:

أولا، بالنسبة لإسرائيل، فإن المشاركة في المحاكمة لمحاولة إسقاط الاتهام بممارسة الإبادة ضد الفلسطينيين، ليست شجاعة ولا ثقة في البراءة من اتهام ستكون له تبعات كثيرة ونتائج عديدة بالنسبة لدولة كإسرائيل لها علاقاتها مع العديد من دول العالم، خاصة بعد تضرر صورتها الدولية لدى العديد من دول العالم، والتي اتضح أن الكثيرين منهم لم تكن لديهم صورة حقيقية عن الصراع ولا عن الممارسات الإسرائيلية الهمجية ضد الفلسطينيين على مدى السنوات والعقود الماضية، يضاف إلى ذلك أن محكمة العدل الدولية هي الهيئة القضائية العليا للأمم المتحدة وتحتاج قراراتها أو أحكامها إلى تصديق من جانب كل الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، حيث يمكن لأي دولة من التي تتمتع بحق النقض - الفيتو- إسقاط أو منع تنفيذ أي حكم أو أي فقرة أو جزئية من حكم تصدره المحكمة، إذا استخدمت ضده حق النقض لمنع تنفيذه، وهنا تنتقل الحماية الأمريكية لإسرائيل من مجلس الأمن الدولي إلى محكمة العدل الدولية لحماية إسرائيل ضد أية أحكام أو إدانات دولية أو قرارات ضد إسرائيل، مثل الأحكام التي قد تصدر في حالة ثبوت ممارسة إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. ويبدو أن إسرائيل قد فاضلت بين هذا الأسلوب الذي يعتمد على استخدام الفيتو الأمريكي وبين البديل الذي يعتمد بالضرورة على تجميع وحشد كثير من الأدلة والبراهين التي قد تثبت للمحكمة عدم استخدام إسرائيل للإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين حتى تصل إلى رفض القرار. ومن هنا جاء قرار إسرائيل بالمشاركة في المحاكمة سريعا اعتمادا على الموقف الأمريكي المضمون في النهاية برفض الدعوى بالفيتو الأمريكي.

ثانيا، إن محاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية تعبر عن انتقال نظام محكمة العدل الدولية إلى ما من شأنه دعم قدرة المحكمة بالنسبة للقضايا ذات المساس بحريات وكرامة الأفراد في القضايا ذات الصلة، وكذلك بالنسبة للدول التي تتحفظ على نظام محكمة العدل الدولية، والتي تعمدت منذ البداية عدم المشاركة فيه، حماية لمواطنيها ولمصالحها كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي ترفض محاكمة مواطنيها أمام أي محكمة غير أمريكية لاعتبارات مختلفة، وتسير إسرائيل على نفس النهج وتمثل محاكمتها بدعوى الإبادة استثناء من ذلك ستترتب عليه بالضرورة نتائج كثيرة في المستقبل، من السابق لأوانه الحديث عنها، باعتبار أن الوصول إلى قرار من جانب المحكمة بقبول الدعوى أو رفضها يستغرق في الواقع وقتا طويلا.

من جانب آخر، فإن الصدى الواسع النطاق والإدانة الجماهيرية باتساع العالم للممارسات الهمجية الإسرائيلية، أعطت أهمية وثقلا لمراعاة قواعد القانون الدولي الإنساني ومراعاة العدالة الدولية، خاصة من جانب الدول القادرة على حماية مصالحها دون تفريط ودون دخول في صراعات مع أطراف أخرى، وهو ما يشجع في الواقع على العناية بالجانب القضائي وبنظام تحقيق العدالة الدولية في النظام العالمي الذي يتشكل الآن، وهو ما يسمح بالتخلص إلى درجة كبيرة من ازدواجية المعايير من ناحية والحد كذلك من حالات الإفلات من العقاب بالنسبة للدول الكبيرة أو التي تستطيع الإفلات من ذلك بشكل أو بآخر، وبالنسبة لجرائم واعتداءات تفتح الطريق بالفعل أمام تعدد الاعتداءات وانتشارها على نحو يهدد بإشعال الكثير من الحروب والمواجهات ومن ثم تدهور السلم والأمن الدوليين وإعطاء اللجوء إلى القوة في التعامل بين الدول مزيدا من فرص اللجوء إليها برغم ما يترتب على ذلك من مخاطر وتدهور في العلاقات بين الدول. ومن المأمول أن تؤدي محاكمة إسرائيل إلى اهتمام متزايد ودافع للحرص على تطبيق قواعد القانون الدولي والعمل على الالتزام بقواعدها حيال مختلف الدول وهو ما سيستغرق بالضرورة سنوات عدة.

ثالثا، إنه في الوقت الذي تحدى فيه رئيس وزراء إسرائيل محكمة العدل الدولية بقوله إنه «لا لاهاي ولا غيرها يمكنه أن يمنع إسرائيل من استكمال تحقيق أهدافها في غزة»، فإن يومي الخميس والجمعة الماضيين شهدا تصريحات إسرائيلية على أعلى المستويات مليئة بالأكاذيب والادعاءات المفضوحة خاصة من جانب من تمكن من متابعة المواقف الإسرائيلية، فبالرغم من أن العالم انتفض ضد الممارسات الإسرائيلية وضد التدمير غير المسبوق للمباني، وأعداد القتلى حوالي 23 ألف فلسطيني ونحو ستين ألف جريح منذ السابع من أكتوبر الماضي، ادعى نتانياهو أن إسرائيل تدافع عن نفسها، وزعم أن مصر هي التي لم تدخل المساعدات إلى غزة بسبب إغلاقها معبر رفح، في حين أن الوقائع تكذبها، وقد كذبت مصر كل تلك الادعاءات والأكاذيب. برغم كثافة الأكاذيب، إلا أنه ليس من الصعب النجاح في إثبات الادعاء وقبول الدعوى ضد إسرائيل، ومن المرجح أن يعود ذلك إلى حقيقة أن الفلسطينيين حرصوا منذ عدة عقود على توثيق صحيح ومتواصل ومنتظم لكل جرائم إسرائيل، وبما يوفر معلومات متكاملة إلى حد كبير يمكن الرجوع إليها والاستناد العلمي الموثق عليها، وهذا كله وغيره يفسر لماذا عارضت إسرائيل بشدة انضمام منظمة التحرير الفلسطينية إلى نظام محكمة العدل الدولية.

برغم كثافة الأكاذيب إلا أنه ليس من الصعب النجاح في إثبات الادعاء وقبول الدعوى ضد إسرائيل، ومن المرجح أن يعود ذلك إلى حقيقة أن الفلسطينيين حرصوا منذ عدة عقود على توثيق صحيح ومتواصل ومنتظم لكل جرائم إسرائيل.

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري