متى تتوقف مزادات بيع بيوت المسرحين؟!

03 يونيو 2023
03 يونيو 2023

بعثت لي زوجة أحد الأصدقاء رسالة طويلة تخبرني فيها أن زوجها أودع السجن بعد أن عجز عن تسديد الالتزامات المالية المترتبة عليه والناتجة عن تراكم إيجار البيت الذي كان يسكنه وعائلته، بعد أن رفع عليه المؤجر قضية أتبعها بقضية تنفيذ، تقول في خاتمة رسالتها المؤثرة: «تخيل أن تصبر على العمل في شركة بقلب صحراء الربع الخالي وفي هذا التوقيت حيث درجات الحرارة تلامس الخمسين دون أن تتقاضى راتبك الشهري الذي هو حقك الطبيعي وحق أبنائك، وتمضي عليك أشهر طويلة تنتظر أن تشعر الشركة التي تعمل فيها، بإخلاص، بمجرد المسؤولية الإنسانية فتحول لك ولو بعض رواتبك التي تستطيع بها تأمين مجرد لقمة عيش يابسة لأطفالك، لكن ما يحصل لك عكس كل توقعاتك، فتجد نفسك في لحظة الرجاء وانتظار الفرج بين قضبان السجن لا حول لك ولا قوة إلا الكثير من الحسرة والغصة وشعور بالمهانة؛ فلا أحد يدرك بحق حجم مأساتك ومأساة أسرتك.. هذا ما حصل لزوجي ويحصل لي الآن وهو داخل السجن، ويبدو أنه يحصل للكثيرين غيرنا كل يوم».

رغم أن كل شخص يعتقد أن مأساته هي ذروة المآسي الإنسانية، إلا أن هذه القضية هي نموذج واحد لتجليات كثيرة وصعبة بتنا نسمع عنها يوميا خلال وبعد جائحة فيروس كورونا، التي ذهبت إلى غير رجعة إلا أنها خلفّت الكثير من المآسي الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.

تقول منظمة العمل الدولية إن الجائحة تسببت في فقدان أكثر من 25 مليون شخصا لوظائفهم على مستوى العالم بشكل مباشر إضافة إلى أعداد كبيرة أخرى تأثرت وظائفها بالجائحة تأثرا غير مباشر.. وفي سلطنة عمان فإن أكثر من 16.9 ألف سُرحوا من وظائفهم بحسب اتحاد عمال سلطنة عمان منذ عام 2019 ولغاية نهاية العام الماضي، وهناك أعداد مماثلة تأثرت أعمالهم بشكل غير مباشر، ورغم أن الكثير من هؤلاء عولجت أوضاعهم، واستفاد آخرون من حزم الدعم والمساعدة التي أقرتها الحكومة خلال السنوات الماضية ومن بينها الاستفادة من المنحة التي يقدمها صندوق الأمان الوظيفي إلا أن كل هذا لا يصنع الاستقرار الدائم لأي موظف، بما في ذلك الاستقرار الأسري، وهو علاج جزئي ومؤقت، ولم يستطع منع عرض بيوت العشرات من المسرّحين من أعمالهم في مزادات علنية، ولم يمنع إيداع العشرات في السجون، ما تسبب في مآس اجتماعية صعبة لأسرهم.

إن أحد الحلول المطروحة لهذه الأزمة التي خلفتها جائحة فيروس كورونا وقبل ذلك أزمة أسعار النفط، تتمثل في وضع معالجة حقيقية محكمة لموضوع التسرّيح، خاصة أن هناك من يتحدث عن أن بعض التسريح غير مسوغ وهدفه أن يُستبدل بالموظفين الذين يستلمون رواتب مرتفعة بحكم الخبرة والأقدمية موظفون جدد تكون رواتبهم متدنية، وقد تحدث الكثيرون عن هذه النقطة.. ولعل قانون العمل المنتظر صدوره في الفترة القادمة يضع حلولا جذرية لهذه المشكلة الصعبة ويقيدها بالقوانين والتشريعات.

أنا أؤمن شخصيا أن أزمة الباحثين عن عمل في سلطنة عمان هي أزمة اقتصاد، فعندما يتحرك الاقتصاد ويقوى، يستطيع أن يصنع وظائف تنافسية وبرواتب جيدة كما كان عليه الحال قبل بدء أزمة أسعار النفط في عام 2015 شرط أن يحكم الأمر بقوانين تجعل الجميع يشعرون بالطمأنينة الآنية والمستقبلية.. لكن ما يحدث الآن من شأنه أن يمنع أي باحث عن عمل من مجرد التفكير في التوجه للقطاع الخاص الذي ما زال مستودعا كبيرا للوظائف بالنظر إلى عدد الوافدين الذين يعملون فيه؛ فالعماني الذي يعمل في القطاع الخاص أو يفكر في العمل فيه لا يأمن على وظيفته ولا على أسرته ولا يأمن على منزله الذي تحمّل الكثير من أجل شرائه أو بنائه، ما دام موضوع التسريح مستمرا ولا قانون يحمي حتى بيع منزل أسرة المسرّح أو إيداعه في السجن بسبب لم يقترفه ولكن تسببت فيه جائحة طبيعية فقد بسببها وظيفته.. ولنا أن نتصور كيف سيكون موقف أي واحد منا عندما يُخرجُ من بيته صباحا ويقف عند إحدى زواياه بصحبة أطفاله ويسمع «الدلال» وهو ينادي على بيته/حلمه: «كم رسم كم قال!!».

أحد الحلول المنطقية الآن أن يصدر تشريع يوقف حبس المسرّحين من أعمالهم دون ذنبهم في القضايا المالية ويعلق بيع المنازل المرهونة للبنوك التي تخَّلف أصحابها عن دفع أقساطهم الشهرية، ويمكن أن يعطى المسرّح أجلا قدره 5 سنوات أو إلى وقت حصوله على وظيفة مناسبة إن استطاع قبل أجل السنوات الخمس، والأمر نفسه لمن ما زال على رأس عمله ولكن الشركة التي يعمل فيها لا تصرف له راتبه الشهري، رغم أن على وزارة العمل إيجاد حل جذري لهذا النوع من القضايا، فما دام الموظف يعمل، فهذا يعني أن أعمال الشركة قائمة ومستمرة وهي بذلك قادرة على صرف رواتب موظفيها في الوقت القانوني .. فلماذا تصرف لهم راتبا واحدا كل 8 أشهر أو لا تصرف أبدا!

ورغم أن هناك أزمة حقيقية في الكثير من الشركات إلا أن الأمر لا يخلو، أبدا، من استغلال البعض لهذه الأزمة، ولكل أزمة تجّارها كما يقول المثل.. وبما أن سلطنة عُمان تعيد الآن بناء منظومة قوانينها فيمكن أن تستفيد من كل هذه القضايا لبناء قانون محكم يستطيع ضبط كل هذه التجاوزات أو ما يمكن أن ينتج منها في المستقبل.

وفي هذا السياق لا بد من تقدير الدور الكبير الذي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني الخيرية، فقد تصدت خلال السنوات الماضية لمئات القضايا وانتشلت المئات من داخل السجون وأعادتهم إلى أحضان أسرهم، وهذا دور أساسي للمجتمع لا بد أن يقوم به، ولا أرى مشكلة في ذلك ولو وصل الحال أن يكون في كل حي مؤسسة خيرية أو فرع لها أو لجنة منبثقة منها فهذا مصدر قوة لأي مجتمع لأنه يزيد حجم التكاتف بين الناس ويشعرهم بالمسؤولية الاجتماعية والإنسانية بين بعضهم البعض. أما من يقول إن هذا هو دور الدولة وحدها فهو لا يعي أبدا أن على أفراد المجتمع مسؤوليات كبيرة تجاه بعضهم البعض، والالتزام بهذه المسؤوليات تقوي المجتمع وترسخ وجوده.

وإلى أن يحدث كل ذلك فإننا سنقرأ الكثير مثل رسالة زوجة صديقي المسجون، ولا نملك إلا أن نتأثر وندعو بالفرج القريب.

عاصم الشيدي رئيس التحرير