متلازمة الجندي المتفاني

03 يناير 2023
03 يناير 2023

تؤكد سيكولوجية النمو التطوري أن الأطفال الصغار يتمتعون بقدرة كبيرة على التفاني والإيثار، فإذا أسقط أحد الوالدين غرضاً من يده، بعضهم في عمر 14 شهرًا سيبادر لالتقاط ذلك الغرض وإعادته لوالده، وحينما ننظر بتركيزٍ حولنا في بيئة العمل، نجد أن هناك دائماً ذلك الموظف الذي ينجز أكثر مما هو متوقع منه، ذلك الشخص الإيجابي الذي يقدم الكثير لأجل زملائه ومؤسسته، فهل يعتبر هذا السلوك مجرد سمة شخصية تتشكل منذ سنوات الطفولة، وترافق الإنسان في جميع مراحل حياته؟ أم أنها قيمة مهنية تستحق الوقوف عندها وتشجيعها واستثمارها؟

على الرغم من أن التفاني والإخلاص في العمل تنبع من السمات الشخصية للموظف إلا أن لها سيكولوجية معقدة، وقد أذكت الكثير من الفضول العلمي لدراسة هذا السلوك في المحيط العملي والمهني، وقد وضع الباحثون عدة فرضيات لتفسير منبع سلوك الموظفين الذين يقومون بدافع من إرادتهم الحرة بتقديم الدعم لزملائهم ومؤسستهم، من خلال تنفيذ مهام إضافية وغير مطلوبة منهم في عقودهم الوظيفية، أطلق على هذا السلوك " متلازمة الجندي المتفاني"، إذ لم يجد الباحثون وقتها مقاربةً أنسب من الجندي المخلص الذي يتمسك بواجبه حتى آخر رمق، ساد استخدام هذا المصطلح في بحوث السلوك الوظيفي لأكثر من ثلاثة عقود، ثم استبدل بمسمى "المواطنة المؤسسية".

تم تعريف سلوك المواطنة المؤسسية لأول مرة من قبل البروفيسور دينيس أورجان، أستاذ الإدارة في جامعة أنديانا الأمريكية في عام 1988، على أنه "ذلك السلوك المهني الإيجابي والفردي الذي لا يكافأ عليه الموظف بنظام المكافآت الرسمي في المؤسسة، وعندما يتكرر ويتأصل كثقافة في المجتمع الوظيفي يؤدي إلى التميز والفعالية"، لاقى إسهام البروفيسور أورجان صدى كبيراً، واستقطب اهتمام الباحثين والمفكرين بتعريفه الجديد لمتلازمة الجندي المتفاني، حيث تم الاستشهاد بالورقة العلمية التي قدمت هذا التعريف خلال تلك الفترة أكثر من 5300 مرة في أوراق بحثية أخرى، وكان مفهوم سلوكيات المواطنة المؤسسية موضوعًا لأكثر من 216,000 ورقة علمية.

يظهر سلوك المواطنة المؤسسية في العديد من الصور، وعرَّف البروفيسور أورجان السلوكيات الخمسة الأكثر شيوعًا، وهي: أولاً السلوك الإيثاري الذي يظهر عندما يبادر الموظف بمساعدة زميله الغارق في إنهاء المهام العاجلة، هذا التوجه ينشر روح الإيجابية، ويرفع معنويات الموظفين، ويعزز إنتاجيتهم وفعاليتهم. أما اللباقة المهنية فهي سلوك مهذب ومراعي تجاه الآخرين، وإذا توفرت اللباقة المناسبة في بيئة العمل فإن أثرها كبير في تعزيز العلاقات المهنية المتينة التي بدورها تشجع العمل المتناغم والمتكامل بروح الفريق الواحد.

ويأتي التحلي بالروح الرياضية كنمط ثالث من أنماط المواطنة المؤسسية، وهي ببساطة تتعلق بقدرة الموظف على أن يكون خاسرًا جيدًا، حينما يتعلق الأمر بالقدرة على التعامل مع المواقف التي لا تسير كما هو مخطط لها، وعدم إظهار السلوك السلبي، ثم يأتي الانضباط في قلب المواطنة المؤسسية، وهو لا يعني الالتزام بمواعيد العمل وحسب، إنما يعني الالتزام بإنجاز العمل دون الحاجة إلى رقيب، وأخيراً تأتي القيمة المعنوية لصدق الانتماء للوظيفة، وهي تدور حول كيفية تمثيل الموظف لمؤسسته عندما لا يكون في محفل رسمي، بما يعكس مدى الرضا الوظيفي والولاء المهني، على سبيل المثال كيف يتحدث عن المؤسسة بين أهله وأصدقائه.

ثبت بالأدلة العلمية أن المواطنة المؤسسية تسهم في رفع جودة الأداء المؤسسي، فهي تضفي روح الترابط على التفاعلات الاجتماعية بين الموظفين، فوجود السلوكيات الإيجابية في محيط العمل تقلل من التوتر، وتوفر بقعة الأمان النفسي لوجود ذلك "الجندي المتفاني" بين فريق العمل، ويخلق القدوة التي يتطلع إليها بقية الموظفين، كما تسهم في زيادة الأداء التنظيمي في المؤسسة، وتحقيق مستويات أعلى من الإنتاجية، والتقليل من الدوران الوظيفي، وسلوكيات العمل غير المنتجة، فالمواطنة المؤسسية وإن كانت لا تتلقى نوعية المكافأة الاعتيادية، إلا أنها تستقطب الاهتمام والتقدير؛ لأنها الميزة النادرة التي تكسب المؤسسة هويتها المتفردة بين المؤسسات.

فإذا كانت المواطنة المؤسسية تضفي العديد من الفوائد للمؤسسة والموظفين، كيف يمكن تشجيع سلوكيات هذه المواطنة واستثمارها بشكل مجدي؟ نجد أن غرس سلوكيات المواطنة المؤسسية لا تعتمد على المبادرات الفردية وحسب، إنما هي تبدأ من مرحلة اختيار الموظفين قبل تعيينهم، إذ يجب على المؤسسة تضمين قيم المواطنة المؤسسية التي تتطلع إليها في مجموعة واسعة من التقييمات المختلفة، مثل الاختبار المعرفي، ومقابلات عينة المتقدمين للوظيفة، واختبار الشخصية، بذلك يمكن حصر الاختيارات في المترشحين الذين تنطبق سماتهم الشخصية مع القيم والثقافة المؤسسية، مما يرفع من فرص تحقيق الممارسات والسلوكيات الإيجابية داخل المؤسسة.

ويمكن للمؤسسة تحفيز انتشار سلوكيات المواطنة المؤسسية عبر التعلم غير الرسمي، الذي يشير إلى أي تعلم يحدث من خلال الممارسة اليومية لإجراءات العمل، والخبرة والتواصل مع الآخرين، ولا يعد جزءًا من برنامج واضح لاكتساب المهارات أو المعرفة، وتشجيع التعلم الذاتي الذي يسهم في تحسين المهارات، والارتقاء بالموظفين من أدوارهم كأدوات تنفيذية إلى مستوى التفكير الذاتي، والمبادرة في صناعة القرار، وهنا تلعب جودة بيئة العمل أو "مناخ التعلم" دورًا مهمًا في دعم هذا التعلم الاجتماعي غير الرسمي، الذي يعمق سلوكيات العمل الإيجابية.

وتعد المواطنة المؤسسية نواة السلوك الابتكاري المبادر في تحسين جودة العمل، إذ تم تأطير هذا المحور في دراسات اعتمدت النهج الكمي، واستخدمت نظرية التبادل الاجتماعي إطاراً نظرياً ومرجعياً، لدراسة سلوكيات المواطنة المؤسسية الإيجابية في المهن التي تتطلب سمات الإيثار والتفاني، مثل مهنة التدريس والطب والتمريض. وأفادت النتائج المستخلصة عن وجود مسارات إيجابية وذات دلالة إحصائية بما يتعلق بدور المواطنة المؤسسية في تشجيع السلوك الابتكاري، وزيادة المبادرات التجديدية من حيث تجويد مضمون العمل وإجراءاته، مع الأخذ بالبعدين الأساسيين للمواطنة المؤسسية، وهما بُعد الإيثار وهو سلوك يستهدف بشكل خاص تقديم يد العون للموظفين الزملاء من أعضاء الفريق، وبُعد الامتثال للقواعد العامة في المؤسسة والمعايير والتوقعات، ثم تجاوز الواجبات الوظيفية المعتادة لتقديم أداء يفوق هذه التوقعات.

والتوجه نحو سلوكيات الأدوار المهنية الإضافية تعد ذات أهمية وأولوية للمؤسسة، حيث من المحتمل أن تعزز هذه السلوكيات التواصل الأكثر فعالية داخلياً، وتسمح بمشاركة أفضل الممارسات بين الموظفين، وتعزز التنسيق فيما بينهم بشكل يسهم في إنجاز العمل بكفاءة وسرعة، وهنا يأتي الدور الكبير للقيادة في صناعة وتجذير المواطنة المؤسسية، فنجد أن ممارسة نمط القيادة الخدمية تعمل على توجيه الموظفين نحو العمل برؤية مشتركة، مع احترام الالتزامات الجماعية تجاه المؤسسة، ورفع القدرة على تحسين البيئة الوظيفية وشحنها بالإيجابية، وتعزيز محور تطوير قدرات الموظفين إلى أقصى إمكانياتهم في أداء مهامهم، وبناء الثقة الذاتية بجدوى القيام بهذه المهام والغاية الكبرى منها؛ لتوليد ذلك الإلهام بتقديم ما هو فوق المتوقع.

وتشير أفضل الممارسات على أن النقطة المفصلية بين الأداء التقليدي والأداء المؤسسي المتميز هو وجود ذلك التوجه على مستوى القيادة المتوسطة والعليا في صناعة المواطنة المؤسسية، وهي لا تأتي عن طريق مجاملة الموظفين والتغاضي عن هفواتهم لضمان عدم التذمر، لكنها تتطلب إرساء ثقافة عمل قائمة على الانضباط والالتزام التنظيمي، وتوضيح الأدوار والمسؤوليات وربطها بالغاية من وجود المؤسسة، ورفع حس المسؤولية المهنية، وتشجيع السلوكيات الفردية الإيجابية، واستكشاف الدوافع التحفيزية، وإبرازها كصورة مثالية تتطلع إليها المؤسسة، فالسمات الفردية لها دور أساسي في إنتاج المواطنة المؤسسية؛ لأنها تنشأ من ذلك التفاعل بين الخصائص الفكرية والعاطفية والاجتماعية التي يتم التعبير عنها على هيئة سلوك وخبرات، وهي تتميز بقدر كبير من التفرد كون أن سمات الأفراد متباينة من حيث الأخلاق والمواقف والقيم والمعتقدات والطموحات والتطلعات والاهتمامات والعادات، وفهم السمات الفردية تساعد على تحقيق الانسجام المطلوب مع بيئة العمل، والمتعاملين والمستفيدين من المؤسسة.

دعونا ننظر إلى أحد الأمثلة الشائعة في دراسات المواطنة المؤسسية التي تبرز أهمية القيادة الخدمية ووجود السمات الفردية، في تحفيز السلوكيات المهنية الإيجابية، فالتأثير الناشئ عن القيادة الملهمة التي تقابلها الجاهزية الفردية، هما بمثابة نشاطان منفصلان يقودهما فريقان متداخلان، وينتج عنها تحقيق القيمة العملية للمستهدف الأساسي، فنجد أن الباحثين غالباً ما يستخدمون المحاكاة التالية، وهي حالة مدير الشركة الذي يرى أن الموظفين لديه يقومون بأدوارهم، ولكن دون إظهار أي "التزام عاطفي" نحو المؤسسة، وعلى الرغم من أن معدل الدوران الوظيفي يقع ضمن حدود المتوسط، إلا أن خروج الموظفين يرهق كاهل الشركة بالأعباء المالية في إعادة تدريب الموظفين وإحلالهم، وعند الاستعانة بالاستشاريين المحنكين ينصب التشخيص على المستوى التنظيمي فقط، في حين يسعى المدير لتحقيق هدف واحد لإنقاذ شركته، وهو: كيف يمكن أن يلتزم الموظفون إدارياً وعاطفياً بالمؤسسة، ويقومون بمهامهم بإتقان وتفان، ويبادرون في مجالات واتجاهات لم تفرض عليهم مهنياً أو وظيفياً؟

خصصت مجلة علم النفس التطبيقي أعدادًا كاملة لدراسات موجه نحو سيناريوهات صناعة المواطنة المؤسسية، والأدوار المختلفة للثقافة المؤسسية ودور القيادة وتأثير الأقران، وكذلك دور السمات الفردية وأنماط الشخصية، والظروف الاجتماعية والعمرية للموظفين، وتباينت النتائج البحثية باختلاف بيئات العمل التي تمت دراستها، فالقطاعات الإنتاجية مثل الشركات والمصانع والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة أظهرت نتائج مرتبطة بالعوامل التنظيمية والإدارية والتمويلية، أما في المؤسسات الخدمية وبيئات العمل المعرفية فقد تصدرت قائمة المحددات لصناعة سلوك المواطنة المؤسسية مجموعة الأبعاد المتعلقة بأنماط القيادة والبيئة التحفيزية، ومدى نجاح جهود التغيير في إذكاء المبادرات الفردية الإيجابية.

ومع وفرة المعلومات والأدلة العلمية بشأن هذه الركيزة المهنية الهامة، إلا أن الباحثين والمفكرين والمهتمين لا يزالوا في حيرة، ومع تطور التقنيات المتقدمة ودخول الآلة إلى عالم الأعمال، وانحسار الوجود البشري في المشهد المهني للعديد من الوظائف بفعل الذكاء الاصطناعي، فهل سيتم تعليم الآلة مبادئ المواطنة المؤسسية؟ وهل سيظهر من بين الآلات والروبوتات ذلك "الجندي المتفاني" الذي يقوم بعمله بشكل متقن، ويبادر في مهام أخرى فوق ما احتوته البرمجة؟ وهل سيتمكن العلماء من تعليم الآلة تلك التفاعلات العاطفية المعقدة للارتباط ببيئة العمل، والالتزام الاجتماعي والنفسي بالمهنة وجميع الجوانب غير الملموسة التي تكمن في نفوس وعقول الموظفين؟

التطورات المعرفية والتقنية لا تقف عند حدٍ، وقد تفاجئنا الثورات التكنولوجية القادمة بالكثير من المستجدات والنماذج الهجينة في محيط العمل، وعلى البشرية أن تستغل الوقت المتبقي حتى ظهور هذه البيئات المتقدمة، واستخراج أفضل ما يمكن أن يقدمه الإنسان من تفوق وإتقان وإبداع، وكذلك من تفرد عميق يستعصي على الآلة أن تحاكيها أو تنافسها، فموضوع المواطنة المؤسسية يقع ضمن النقاط العمياء التي قد لا تلتفت إليها المؤسسات، ولكنها من أهم المحددات التي تصنع الفرق بين الجهود البناءة لدعم الثقافة المؤسسية الناجحة، وتعميق قيم وسلوكيات عمل إيجابية، وبين هدر الوقت والجهد في محاولات التغيير على نطاق واسع وتجريدي دون طائل.

*د. جميلة الهنائية، كاتبة وباحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.