ماذا نتوقع من الجمهورية الثانية في عهد أردوغان؟

07 يونيو 2023
07 يونيو 2023

منذ تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا عام 2002، ثم فوزه في الانتخابات الأخيرة؛ اهتم اهتماما كبيرا بقضية مرور مائة عام على اتفاقية لوزان وشروطها على الدولة العثمانية، بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى في عام 1914، كونها مع دول المحور الذي تمثله ألمانيا والنمسا ومملكة بلغاريا، في مقابل دول التحالف الذي تمثله المملكة المتحدة، وفرنسا، وروسيا وصربيا، والتي تنتهي هذا العام (2023)، ولا شك أن الرئيس التركي أردوغان، ذكر في بعض أحاديثه منذ عدة سنوات، أن تركيا، بعد مرور مائة عام، قد نفضت الغبار عن تركيا القديمة، وأنها تستطيع التنقيب عن النفط، ووضع الرسوم على مرور السفن التجارية، وحفر قناة جديدة لهذا الغرض، والتنقيب عن الغاز، وهذه أمنية منتظرة للدولة التركية الجديدة كما قال، لتحقيق استقلالها الكامل من شروط الإذعان، التي كانت مجحفة في حقها، وقد اشتملت هذه المعاهدة على 143 بندا، كون الصراع بينها وبين الغرب استمر لعقود لم تغب عن الأذهان في الغرب، وهو الذي جعل الشروط عليها ثقيلة، بالقياس على الدول الغربية التي كانت معها في هذه الحرب.

ولا شك أن الزعيم التركي المحافظ دينيا المهندس نجم الدين أربكان، هو الذي سعى إلى المطالبة بانتقال الجمهورية التركية التي أقامها كمال أتاتورك بعد إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924، وتم تأسيس العديد من الأحزاب السياسية من أجل تخفيف الكثير من القيود والقرارات المتشددة التي تسير عليها العلمانية القهرية في تركيا الكمالية، دون إتاحة المجال للتعدد والتنوع الفكري والسياسي، والثقافي، وخاصة مجال الحريات العامة في المجتمع التركي والتعددية السياسية، وفق النموذج الديمقراطي الأوروبي المعروف. وفي بداية السبعينيات من القرن الماضي، اهتم نجم الدين أربكان بالمعترك السياسي كما أشرنا، من خلال تأسيس (حزب النظام الوطني) ولكن لم تتح له الفرصة للنشاط الفعلي نتيجة الحظر والإلغاء والحجب، وكلها تحت بند مخالفة العلمانية، بالرغم من الالتزام بكل القوانين السارية في تركيا الكمالية، ومنها العراقيل التي حالت دون الاستمرار في النشاط السياسي المدني، بعد عدة انقلابات عسكرية في تركيا، شملت كل الأحزاب السياسية، بما فيها التي تسير وفق الرؤية العلمانية، وبعد ذلك أسس أربكان حزب الخلاص الوطني، ثم حزب السلامة، ثم حزب الفضيلة، ثم حزب السعادة، وآخرها حزب الرفاه الذي أسسه أربكان عام 1983، وحقق في الانتخابات 185 مقعدا في البرلمان، وكلها لم تستمر بسبب الحظر، بادعاء مخالفة الأسس الدستورية للعلمانية الكمالية، وبعد إلغاء آخر حزب لنجم الدين أربكان عام 1998، فكّر تلاميذ نجم الدين أربكان بالنظر في قضية كثرة الحظر والإلغاء لنشاطهم الحزبي السلمي، ففكروا في إنشاء حزب جديد يقوم على أسس أخرى بمؤسسات وهياكل جديدة، تستفيد مما كانت عليه الأحزاب التي أسسها زعيمهم المهندس نجم الدين أربكان -رحمه الله- واتفقوا على تأسيس (حزب العدالة والتنمية) في عام 1981، وهذا الحزب عدّ نفسه ديمقراطيا محافظا، ولكنه لا يخفي مرجعيته الدينية.

نجح الحزب نجاحا كبيرا في انتخابات عام 2002، بوصوله إلى سدة الحكم، بعد اكتساحه لأغلب الأصوات في هذه الانتخابات التي أهلته للفوز، وبقي يحقق الاكتساح حتى انتخابات هذا العام 2023. ولا شك أن الهوية الإسلامية بدأت كظاهرة في البروز، ليس في تركيا وحدها، لكن هذه الظاهرة، برزت في كثير من دول العالم العربي والإسلامي، خاصة بعد الثورة الإيرانية، ومع تراجع الأفكار اليسارية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية، وانكماش الرأسمالية الغربية قبل ذلك بسبب التحولات الفكرية في عالم اليوم التي هي نتيجة من نتائج التغيرات؛ وبذلك نجح حزب العدالة والتنمية، في إدارة النشاط الاقتصادي باقتدار في المقام الأول، ليكسب الرهان الشعبي، في ظل الظروف الاقتصادية التي عانتها تركيا مع بداية الألفية الثانية، مع عدم القفز على الواقع السياسي والفكري القائم، وهو الذي سار عليه بالتدرج، وهذه سنة إلهية في تغيير الأنفس بالحكمة والرؤية الثاقبة، دون حرق المراحل، الذي يعني القفز للمجهول. كما أن مرور أكثر من سبعين عاما على الرؤية العلمانية بصورتها القهرية، وعدم قبول التعددية السياسية والفكرية برحابة وتقبل، أسهم في عدم قبول الجيل الجديد من الشعب التركي لهذه الرؤى العلمانية، خاصة ممن يريد استعادة الهوية التركية الإسلامية، كما أن رؤية أتاتورك متراجعة ـ كما يقول الباحث ميشال نوفل ـ في كتابه (عودة تركيا إلى الشرق): «إن الكمالية تجاوزها الزمن، شأنها في ذلك شأن الأيديولوجيات الشمولية المنهارة في الاتحاد السوفييتي سابقا، وفي بلدان أوروبا الشرقية. كذلك تبين أن الأيديولوجيا الرسمية الجديدة ـ بعد عام 1980 خاصة عند تولي تورغوت أوزال (1927- 1993)، وخفف من العلمانية المتشددة ـ حيث تم تكريس مفهوم التوليف التركي الإسلامي سياسة رسمية... وبدأت تتشكل خلفية صعود التيار الإسلامي الإصلاحي، واتساع قاعدته الشعبية، تحت وطأة القوة الدافعة لإصلاحات الرئيس الراحل تورغورت أوزال، الذي قام بعملية إعادة توجيه في العمق للسياسة التركية المحلية».

وسعى حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس أردوغان، إلى وضع أفكار إيجابية وعملية، دون الصدام مع المؤسسة العسكرية، التي بدأت بتخفيف قيود الحظر، كلما لاح نجاح التيارات المحافظة في الانتخابات، خاصة بعد فوز حزب العدالة والتنمية عام 2002، وتولي عبدالله جول الرئاسة، ورجب طيب أردوغان رئاسة الوزراء، وفي هذه المرحلة أحس الرئيس أردوغان وزملاؤه، أن الظروف أصبحت ملائمة لتحقيق الوعود للناخب التركي، وخاصة النهوض الاقتصادي والاجتماعي، وإقصاء بعض القرارات التي تبنتها تركيا الكمالية، خاصة قضية الحجاب في الجامعات والكليات، والتعليم الديني، وهذا ما أسهم في قبولها، وهي قضية الحريات الشخصية، التي لا ترفضها حتى أغلبية الدول الغربية الليبرالية، عدا فرنسا وهي الدولة الوحيدة الأوروبية الأكثر تشددا تجاه الحريات الشخصية! فالرئيس التركي أردوغان لم يسع جاهدا ومثابرا للفوز بكل قوة وحماس، مثلما سعى في هذه الانتخابات الأخيرة 2023، وهو أن يكون في السلطة ويشهد مرور مائة عام على انتهاء شروط الإذعان للدولة العثمانية، ويحقق أمنية مخطط الجمهورية التركية الثانية، مع تحقيق الرؤية التي وضعها حزب العدالة والتنمية، (رؤية 2023)، وهذه الرؤية كما تحدث عنها الرئيس أردوغان تتعلق بخطوات إصلاحية دستورية واجتماعية واقتصادية للجمهورية الثانية الجديدة، وقد ورث أردوغان تركة ليست سهلة، وواجه هو وحزبه المحافظ الكثير من المصاعب والتحديات، لكنه حقق نجاحات ضخمة، ونجح في قيادة تركيا لمدة طويلة مع إقصاء بعض القرارات المعوّقة خلال حكمه، ومنها تعزيز الهوية التركية وتحجيم الرؤية العلمانية المتطرفة في قضية الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية، كما أن أهم العوائق التي لم تعد قائمة في تأثيرها على القرار السياسي بعد عام 2002، قضية الوصاية العسكرية في تركيا، إذ كانت لاعبا مهما منذ قيام الجمهورية، وبعد انتهاء الخلافة العثمانية، ولذلك تأصلت الديمقراطية التركية، وتحققت فاعليتها، وأصبحت التعددية السياسية سالكة دون إعاقات أو مثبطات.

من هنا سيبدأ الرئيس التركي في تطبيق الرؤية الجديدة بعد نجاحه في الانتخابات الأخيرة، لما بعد المئوية ـ كما أشرنا إليها آنفا ـ وأهم ملامحها التصويت على دستور مدني جديد لتركيا في البرلمان، يتوافق مع المرحلة الراهنة، ويرى الرئيس رجب طيب أردوغان في هذه المرحلة الجديدة أن: «تركيا 2023 التي نتخيلها نحن الشعب التركي، هي بلد قد اجتاز المحن تماما، وأتم التنمية، وكذلك هي الدولة الديمقراطية التي استطاعت تحقيق الشروط اللازمة لتصبح دولة اجتماعية» مضيفا: إن «هدفنا أن نحتفل بالعام المائة لتأسيس جمهوريتنا، بحيث تكون تركيا قد دخلت في قائمة العشر الأوائل في العالم، ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل على الصعيد الديمقراطي. ومن أجل هذا فإن ما يجب علينا فعله هو أن نتأمل تاريخنا جيدا». فتركيا في جمهوريتها الثانية، ستكون منطلقة إلى رؤية جديدة مغايرة عما سبقها من حيث تعزيز الإصلاحات الداخلية، وتقوية الشراكات الاستراتيجية، وتبادل التجارة البينية والاستثمارات، مع حيادها السياسي الدولي، وتقوية هويتها الذاتية والاقتراب من محيطها.. لكن ماذا عن علاقتها مع العالم العربي؟ وما هي توجهاتها المقبلة؟ للحديث بقية...