ماذا بعد استكمال المنظورين «السياسي والتشريعي» لنظام المحافظات الجديد؟

22 يونيو 2022
22 يونيو 2022

تساؤل العنوان أعلاه، يركز على التطبيق بصورة ملحة، وبكيفية النقلة النوعية والكمية التي تحمل معها المجتمعات الإقليمية والمحلية للمستقبل دون التمسك بالماضي ومنتوجاتها الإدارية، وتمنحها الثقة بالهندسة الإدارية الجديدة منذ بداية تطبيق نظام المحافظات الجديد، من هنا، ينبغي أن يتصدر هاجس التطبيق عند كل المحافظين، ويشكل شغلهم الشاغل؛ حتى يبعثوا برسالة نظام المحافظات الجديد في التوقيت المناسب، وحتى ينقلوا بعض المجتمعات من الحديث عن امتيازات محافظاتهم في النظام القديم إلى التفاعل السريع مع أولى مبادرات المحافظين المرتقبة التي ينبغي أن تكون معتبرة وعبر حزمة مشاريع تنموية واقتصادية في كل محافظة.

والتطبيق في الأجل الزمني القصير، ضرورة المرحلة الوطنية، ويكتسب الآن الصبغة السياسية بامتياز، سأوضحها بصورة قاطعة لا لبس فيها في محور المنظور السياسي الحاكمة لنظام المحافظات، وسنرى ما يدهش المتأمل في مجال الرهانات السياسية على نظام المحافظات الجديد، وكذلك سنقف عند ربطه باللامركزية ربطا عضويا «شكلا وغاية» في إطار سياقات تأسيسه للعهد المتجدد، مرتبطة ومتكاملة مع بعضها البعض، بحيث لا يستوي معها قبول أي عملية تأخير في نتائج نظام المحافظات الجديد.

بل، يشكل سرعة زمن تحصيل النتائج الحدث الذي من خلاله سنحقق به الكثير المكاسب المستحقة في هذا الزمن نفسه، منها، تخفيف حدة ضغوطات الضرائب والرسوم على المجتمعات، ورفع الدعم الاجتماعي التقليدي، والتخفيف من معضلة الباحثين عن عمل، والجودة في تقديم الخدمات للمواطنين، ونقل المجتمعات من الهاجس البيروقراطي لتبعية المحافظات، وإثبات أن العبرة تكون في التطبيق ومن ثم النتائج، لا في التنظير رغم أهميته.

أولا: المنظور السياسي للامركزية

كنت قد أشرت إليه في مقال سابق منشور في جريدة عمان في 5 يناير 2020 بعنوان «الرهانات السياسية للامركزية بعد لقاء حصن الشموخ» وهذا اللقاء كان امتدادا للقاءات عاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- مع الشيوخ في كافة المحافظات، لكن هذه المحطة الختامية، كانت الرهانات السياسات على اللامركزية تفوق المتصور الاجتماعي لها، سنستدعي بعض العبارات القطعية الدلالة، والتي تدعم هاجس التطبيق، والانتصار لها حتى في حالة وجود تنازع مع نص قانوني، فالاحتكام للمرجعية السياسية يكون لاستجلاء الإرادة السياسية التي ينبغي أن يحتويها التشريع.

فلو توقفنا عند عبارات محددة وردت في حديث جلالته سالف الذكر مثل «آن الأوان للامركزية» وقد تكررت في الحديث، وكذلك اعتبار الانتقال للامركزية في صناعة القرار في المحافظات، يشكل «ضرورة»، كما لو توقفنا عند مخاطبة جلالته للمحافظين مباشرة، مثل «هذا دوركم الآن» و«دوركم تنمية محافظاتكم من كل النواحي» و«عليكم التفاعل» سنجد أن مضامينها تعنى بالتطبيق، وتراهن عليه منذ آنيته، وبالتالي، ينبغي أن يكون هذا في علم كل محافظ؛ لأنه قد أصبح مطلبا سياسيا واجتماعيا في مرحلة وطنية كثيرة التعقيدات والتحديات.

وهناك أيضا دلائل قوية أخرى، يمكن تقديمها للتأكد على قضية التطبيق،ونجدها في اللقاء نفسه، وذلك عندما قال جلالته «سنتابع كل صغيرة وكبيرة..» كما حدد جلالته خمس سنوات كسقف أعلى لتحقيق نتائج ملموسة للامركزية، وهذا يعني أنه يستوجب على كل محافظ وفورًا التفكير في النتائج، وهي ستكون معيار نجاحه من عدمه خلال المدى الزمني المتوسط، أي خمس سنوات، وهذا لا يعني، الانتظار لهذا المدى المتوسط، بل يستوجب أن تتحقق النتائج خلال مدى زمني قصير، وما خمس سنوات إلا كسقف أعلى لتحقيق النتائج الكاملة.

ومن هذا المنظور السياسي، تظهر مؤسسة المحافظ كاستحقاق وظيفي لتحقيق نتائج ملموسة وسريعة، وليس استحقاقًا شرفيًا يتلبس من شرف به، ويظل معه طويلًا من دون تحقيق النتائج، وهذه الأخيرة تدخل في تحقيق مفهوم التنمية الشاملة في كل محافظة، وهذا ما سيتم توضحيه في المحور التالي.

ثانيًا: المنظور التشريعي للامركزية

سأركز هنا على ما يشغل اهتمامات مرحلتنا الوطنية في ضوء التحولات الكبرى التي تطرأ على مفهوم دور الدولة في بلادنا منذ عام 2020، وهو ما أراه سببًا جوهريًا في تبني نظام المحافظات بصلاحيات مفهوم التنمية الشاملة داخل الحيز الترابي لكل محافظة، وأجدها قد وردت في فقرتين أساسيتين في قانون المحافظات الجديد، هما:

الأولى، وردت في الفقرة الثالثة من اختصاصات المحافظة، وهي تنص حرفيًا: «تنمية واستثمار الموارد الخاصة بالمحافظة، والترويج لها من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وخلق فرص عمل للمواطنين»

والثانية وردت في بند خدمات البلدية في الفقرة الثالثة كذلك، وهي تنص حرفيًا «اقتراح وسائل استثمار الموارد الخاصة بالمحافظة، بهدف تحقيق التنمية المستدامة، وفقا للسياسة العامة للدولة بالمحافظة، ورفعها للمحافظ».

ولو بدأ كل محافظ انطلاقته من هاتين الفقرتين على وجه التحديد، فسيصنع من خلالهما مصادر دخل لمحافظته، وكذلك سيوفر فرص عمل للمواطنين، فلو أخذنا محافظة ظفار مثلا، فهناك « 400» قطعة أرض مؤهلة للاستثمار، لم تستغل، كقطعة الأرض في مدينة السعادة التي حاول مستثمر إقامة عليها مدينة تجارية سياحية سكنية متعددة الأغراض، لكن رفض ليس لأسباب غير موضوعية، ولما فتح الحوار معه مؤخرًا رفض العودة للمشروع بحجة تقادم العامل الزمني، واكتشافه فرص استثمارية بديلة في دولة أخرى.

مما فوتنا على البلاد هذا المشروع المهم، الذي كان عبارة عن إقامة سوق للخضار والفواكه ومطاعم ومقاهٍ ومخازن عددها (14) مخزنًا، ومحلات للتجزئة، ومنطقة سكنية مكونة من (19) مبنى من خمسة أدوار على أنماط إسلامية وعربية ومصرية وآسيوية ويونانية ولاتينية ورومانية وهندية وفرنسية، تكلفة هذا المشروع قرابة (100) مليون ريال، ومدة الاستثمار (50) سنة، وستوفر (1200) فرصة عمل مباشرة و(1500) غير مباشرة، كما ستدخل لخزينة بلدية ظفار أكثر من (400) ألف ريال عماني سنويا كإيجار الأرض، غير ضرائب البلدية الأخرى على المشروع نفسه أو المستنفعين منه مع إمكانية رفع تلكم العوائد كل خمس أو عشر سنوات.

وهذا المشروع استشهد به في مقالاتي لكي أدلل على قدرة محافظات البلاد في صناعة مصادر دخل جديدة، أو إقامة اقتصاد إقليمي مستدام وفي آجال زمنية متوسطة الأجل، وكذلك إيجاد فرص عمل للباحثين عن عمل، ونقدمه في هذا المقال تدعيما لنهج المحافظات الجديد، وإمكانية المحافظين صناعة النجاح المضمون، فالقرارات الاقتصادية والاستثمارية ستكون فيها ديناميكية إذا ما مارس كل محافظ صلاحياته بمهنية وفي الوقت المناسب، ولن نتوقف عند هاجس تبعية المحافظين، فمن حيث المبدأ أن أي مبادرات أو أفكار تحقق أهداف نظام المحافظات الجديد، فلن تعرقل، وأي عرقلة ستعمق حالة الضغوطات اللامركزية على المركز، وستكون مخالفة لتبني النظام الجديد.

ولا تنحصر مهمة المحافظين في المسارات التنموية والاستثمارية والاقتصادية، وإنما تمتد لتحقيق مفهوم التنمية الشاملة في كل محافظة، والمفهوم المتعارف عليه لمفهوم التنمية الشاملة، هو التركيز على جميع مواطن الضعف في كل محافظة أو ولاية، سواء كان اقتصاديًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، كل ما يمس المحافظة من تحديات.. الخ، مع مساهمة كل الفاعلين المحليين والإقليمين في تحويل الضعف إلى قوة، أو تعزيز القوة، وتأمين احتياجات كل مجتمع محلي أو إقليمي، واستيعاب تحدياته، وحل كل مشاكله، وفق تشاركية جماعية، أفقية –أي اللامركزية- وليست رأسية ـ أي مركزية ـ ونقترح لدواع أن تكون البداية قوية ومبهرة، وأن يختار كل محافظ ثلاثة مشاريع اقتصادية استراتيجية يحقق بها أهداف نظام المحافظات الجديد، لعل أبرزها، إيجاد مصادر دخل إقليمية، وتوفير فرص عمل، كمشروع المدينة المتكاملة في ظفار المشار إليه سابقا، وبها سيحدث النقلة النوعية والكمية للنتائج منذ البداية.

وقضية التشاركية تخاطب وعي المحافظين لقيادتهم تجربة تطبيق الأسلوب الجديد لإدارة البلاد، وهو اللامركزية بعد عقود من المركزية، فلا يجعل كل محافظ من سلطته مركزية داخل نظام اللامركزية، فعليه إشراك شركاء التنمية الحكوميين والرسميين كالمجالس البلدية والشيوخ ومفكري كل محافظة ومؤسسات المجتمع المدني.. إلخ، لجعل هذه الفعاليات تنشغل بصناعة التنمية الشاملة في محافظاتهم، لكنني عندما أتأمل في حجم مساحة محافظة ظفار، وعدد ولاياتها العشر المترامية الأطراف، وحاجة ولاياتها البحرية والجبلية والنجدية والصحراوية والحدودية البعيدة عن نظام اللامركزية في ولاية صلالة، أتساءل: هل محافظة واحدة ستحقق مفهوم التنمية الشاملة على كامل هذا التراب الوطني الإقليمي الجيوستراتيجي؟ رؤية نقدمها ولها عدة اعتبارات وطنية عميقة، تتناغم مع رهانات الدولة المعاصرة.

خاصة في ظل الفلسفة التنموية لنظام المحافظات الجديد، وهو التركيز على البعدين التنموي والاقتصادي للمحافظات وجهوياتها.. وقد نتوسع فيها لاحقا.