مَاجِيك والجغرافيا الثالثة

07 مارس 2023
07 مارس 2023

منذ أكثر من ثلاثة عقود ظهر مصطلح «العلوم ما بعد العادية» للاستدلال على جهود المفكرين في عبور الفجوة الفلسفية بين النتائج العلمية والسياسات النابعة عن العلوم الاجتماعية، ركز هذا المفهوم على تعزيز الترابط والتفاعل والتعلم المشترك بين العلماء وصانعي السياسات كجزء مما أطلق عليه آنذاك «مجتمع الأقران الممتد»، وذلك باعتبار أن هذه الفجوة الفلسفية تنبع من الاختلاف المنهجي بين العلوم البحتة والتطبيقية من جهة، وعلوم السياسات من جهةٍ أخرى، إلا أن الفجوة هي أكثر جوهرية من مجرد اختلافٍ في المنهجيات البحثية، فهي تتعلق بجميع عمليات ترجمة النتائج العلمية كمدخلات لبناء السياسات وصناعة القرار، مما حدا بفلاسفة العلوم والتكنولوجيا إلى إدخال مفهوم «الابتكار المسؤول»، الذي يؤكد على أن الابتكار ينشأ من الفهم الواعي بأن الحقائق العلمية والسياسات والقيم الاجتماعية متشابكة بعمق، وهذا بدوره يعني أنه لا يمكن التعامل مع العلوم والسياسات والمجتمع ككيانات منفصلة عن بعضها البعض، ومعرفة بحدود واضحة ودقيقة.

ومع أن فكر العلوم ما بعد العادية ليس جديداً، إلا أن الأدوار المتوقعة من مجتمع الأقران الممتد لم تتبلور بشكل يعكس التكامل والتناغم، مما يستوجب تسهيل الحوار المشترك البنَّاء، وإيجاد جغرافية ثالثة تضم العلماء والباحثين والمفكرين وراسمي الخطط وواضعي السياسات والمجتمع، واستحداث أشكال أكثر تفاعلاً في العلاقات بين العلوم البحتة والسياسات، وصولاً إلى فهم أعمق للظواهر والأنظمة المعقدة والمترابطة، مثل الأمن الغذائي والاقتصاد البيئي، ومستقبل الطاقة، الثورات التكنولوجية، وتحديات الاستدامة.

دعونا نأخذ مشروع ماجيك (MAGIC) التابع للاتحاد الأوروبي مثالاً على تطبيقات فكر العلوم ما بعد العادية، وماجيك هي كلمة منحوتة من اللغة الإنجليزية لمجموع اختصارات الحروف الأولى من عنوان المشروع وهو (Moving towards Adaptive Governance in Complexity) وترجمتها: الحراك نحو الحوكمة التكيَّفية في المحاور ذات التعقيد، واستغرق تنفيذ هذا المشروع الكبير والمتعدد الشركاء الذي أُطلق في عام 2016 أربع سنوات، وتم تمويله ضمن إطار برنامج هورايزون للأبحاث والابتكار 2020، قام مشروع ماجيك في المجمل على تحليل ودعم حوكمة الترابط بين المياه والطاقة والغذاء والبيئة في أوروبا، من منظور علم الاستدامة التحويلي التكيفي، مستلهماً ركائزه من نهج الارتباط الثلاثي بين المياه والطاقة والغذاء، الذي ظهر في الأوساط العلمية لأول مرة في توصيات المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2011، استهدف مشروع ماجيك أربعة محاور للعمل باعتماد الابتكارات كأدوات مركزية لدعم سياسات الاستدامة وشملت: النهج المتكامل للأمن الغذائي؛ والطاقة منخفضة الكربون؛ والإدارة المستدامة للموارد المائية؛ وموضوعات تغيَّر المناخ، وساهم المشروع في اقتراح إصلاحات جذرية في الأدوات النظرية والتحليلية والتنفيذية الحالية على مستوى إنتاج المعرفة، ووضع الخطط والسياسات، وصناعة القرار.

استند مشروع ماجيك على منهجية السردية الكمية، وهي أداة تحليل مستحدثة لتوظيف السردية في استكشاف تعدد الإطارات التي يمكن توجيهها لدراسة الموضوعات البحثية أو الجدلية، والتزم المشروع بالتنفيذ الفعلي عبر مرحلتين؛ امتدت الأولى من 2016 إلى 2018 وركزت خلالها على تحليل أثر سياسات الزراعة والإنتاج الغذائي، والسياسات البيئية، وطرق مواءمتها مع أهداف سياسات الاستدامة الأخرى، وكذلك ركز المشروع على تأطير حوكمة النظم الغذائية، كجزء من بنود الصفقة الخضراء لدول الاتحاد الأوروبي، أما المرحلة الثانية فقد امتدت من 2019 إلى 2020 وعملت على استشراف مستقبل خطة العمل المشتركة لإدارة الاستدامة لما بعد عام 2020، بالتركيز على إدماج التحديات الاجتماعية في التحليل والاستشراف الاستراتيجي المشترك مع جميع الشركاء والمعنيين بالترابط بين الأمن الغذائي والمائي وأمن والطاقة، ونجح مشروع ماجيك في فتح فضاءات الحوار المثمر والبنَّاء، والخروج برؤى استشرافية عميقة، مع الاستفادة الكاملة من المعارف الثرية لمختلف أطياف التخصصات، والجهات الفاعلة، والمؤسسات والمنظمات التي تجاوزت الحدود الفاصلة بين العلوم البحتة وعلوم السياسات.

وبذلك تمكن مشروع ماجيك من تحويل فكر العلوم ما بعد العادية إلى أهداف ملموسة، وفي مقدمتها إعادة هيكلة الإدراك النوعي، والتمثيل الكمي، للترابط الثلاثي بين الأمن الغذائي والمائي وأمن الطاقة باستخدام نهج السردية الكمية، الذي أتاح التحليل الآني لواقع سياسات الاتحاد الأوروبي ذات الصلة، ومحاكاة الخيارات المستقبلية للاستدامة، عن طريق الحوارات والمختبرات المفتوحة التي بلغت (35) جلسة تشاورية، وتميز المشروع بإنشاء ما أسمتها مساحة المعلومات، لتعزيز نشر النتائج وضمان إرث طويل الأمد لنتائج المشروع، وهي في ذات الوقت أداة مرجعية لتخزين البيانات الداعمة لصناعة القرار، ولاختبار جودة السياسات، وتقييم مدى امتثال الابتكارات التكنولوجية بمعايير الابتكار المسؤول، والتحقق من الجدوى الاقتصادية ولاجتماعية في تطبيقها، خصوصاً فيما يتعلق بالمحاور متعددة الشركاء، مثل إنتاج الوقود الحيوي، والجدل حول مواصفات ومقاييس تطبيق الكائنات المعدلة وراثيًا، واستدامة مصادر المياه البديلة.

استيحاءً من مشروع ماجيك، والنجاحات التي أحرزها في دعم الاستدامة، فإنه من الأهمية بمكان الالتفات بجدية إلى محور تكامل النتائج العلمية مع وضع السياسات، والخروج من فخ الحلول التقليدية، التي تعتمد في مجملها على البحث عن معالجات مواتية للظروف الآنية، أو تحويل التحديات لجهات أخرى، إن سد الفجوة الفلسفية بين العلوم البحتة والسياسات يتطلب تجنب التبسيط المضلل لحقيقة هذه الفجوة، والإدراك الكامل بوجود مختلف طبقات التفاعل المعرفي، التي تستدعي البحث عن قواسم مشتركة لتعزيز التكامل بدءاً من إنتاج المعرفة، وتكاملها مع المعارف الأخرى، وحتى تطبيقها وتحويلها إلى صور معرفية مختلفة، وهنا لا بد من الإشارة لأهمية الاستناد لأخلاقيات العلوم ما بعد العادية، إذ ليس الهدف من هذا الفكر هو تضمين التخصصات المتعددة للتنويع من أجل التنويع، وإنما السعي لاستخلاص أفضل ما وراء هذا المزيج الديناميكي من الأدوار التكميلية من المعارف والابتكارات.

يعلمنا مشروع ماجيك بأنه قد تقادم الفهم الخطي للعلاقة بين العلوم البحتة والسياسات، حيث كانت المعرفة التي ينتجها الخبراء العلميون منفصلة عن صناعة القرار، وينظر إليها على أنها دليل لصناعة القرارات ووضع السياسات التي يقوم بها خبراء السياسات في معزل من منتجي هذه المعرفة، أثبت مشروع ماجيك بأن التموضع كوسيط معرفي متعدد الأدوار هو الأنسب لمختلف منتسبي مجتمع الأقران الممتد، فالخبراء من قطاع البحوث العلمية هم مقدمي الحقائق والأدلة الداعمة لمهام صناعة القرار وبناء السياسات، وهم في ذات الوقت الفاعلون الأساسيون في إرشاد تقييم أثر هذه السياسات واستيعابها ثم إعادة إنتاجها، وذلك بالشراكة مع مختلف الشرائح المجتمعية، كجزء لا يتجزأ من الشفافية العلمية، مع الأخذ في الحسبان محدودية المعرفة العلمية، وحتمية وجود درجة من عدم اليقين في عملية صناعة واتخاذ القرار، وعلى هذا النحو يمكن الوصول لابتكارات بناءة، وتجاوز الاستجابات التكنولوجية القياسية المقترحة كحلول علمية للتحديات، والانفتاح في إعادة فهم التحديات من مختلف الاتجاهات لصياغة سياسات اجتماعية مدعومة بالأدلة العلمية، بما يهيئ الفرصة لوضع أفكار العلوم ما بعد العادية موضع التنفيذ.