ما يجري في سجون الاحتلال وصمة عار على جبين الإنسانية
11 نوفمبر 2025
11 نوفمبر 2025
أتت إقالة المدعية العامة العسكرية للكيان الصهيوني يفعات تومر يروشالمي من منصبها قبل عدة أيام؛ نتيجة سماحها بتسريب مقاطع مصورة من قاعدة سدي تيمان سيئة السمعة في صحراء النقب ـ دفاعًا عن مؤسستها ـ، تظهر اعتداء غير أخلاقي وتعذيبًا وحشيًا بحق أسير فلسطيني، لتؤكد للرأي العام العالمي حقيقة ممارسات وجرائم جيش الكيان الصهيوني المجرم، وأجهزته الأمنية تجاه الأسرى الفلسطينيين. وهذا ما ذكرته المؤسسات الحقوقية الفلسطينية وبعض المؤسسات الحقوقية الدولية والإسرائيلية النزيهة، وروايات الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم من تعرضهم لأبشع أشكال التعذيب.
فمنذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م تعرض الأسرى الفلسطينيون لكل ما يمكن أن يتخيله العقل البشري من طرق التعذيب، كالضرب العنيف المستمر، وصب الماء المغلي على الوجوه، وتكسير الأضلاع، وأنواع أخرى من التعذيب غير الأخلاقي -والتي لا يسمح المقام هنا بذكرها- إضافة إلى انتشار الأوبئة والجرائم الطبية، والتجويع وإهانة المعتقلين بشكل منهجي، والضرب حتى الموت ما أدى إلى استشهاد العشرات من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين. وهذا ما أكدته مظاهر المعتقلين المفرج عنهم؛ حيث كانت آثار الضرب والتعذيب واضحة على أجسادهم، كالكسور والجروح وآثار السحل على الأرض، وآثار القيود وبتر الأطراف إضافة إلى فقدانهم لنصف أوزانهم تقريبًا، وعدم قدرة الكثير منهم حتى على المشي من آثار هذا التعذيب الوحشي الذي يدل على حقد عميق وانعدام الأخلاق كليًا لدى سجانيهم وكبار مسؤولي هذا الكيان المجرم.
وقد ظهرت هذه المناظر المروعة لجثث الأسرى الفلسطينيين التي تم استلامها مشوهة من آثار التعذيب، والتي كان عدد كبير منها مقطوع الرأس والأطراف ومكسور الأضلاع. وبالعودة قليلًا إلى تاريخ اعتقال الكيان الصهيوني المحتل للفلسطينيين، ووفق معطيات مؤسسات الأسرى الفلسطينية؛ فإن عدد حالات الاعتقال بين الفلسطينيين منذ عام ١٩٦٧م حتى نهاية العام ٢٠٢٤م بلغ نحو مليون فلسطيني بينهم أكثر من ٥٠ ألف حالة اعتقال سُجلت في صفوف الأطفال دون سن ١٨ عامًا، وأكثر من ١٧ ألف حالة اعتقال لفتيات ونساء بينهم أمهات.
واستنادًا إلى بيانات هذه المؤسسات حول الاعتقال الإداري منذ العام ١٩٦٧م؛ فقد صدر أكثر من ٦٠ ألف أمر اعتقال إداري بحق أسرى فلسطينيين، وهو اعتقال لعدة أشهر قابل للتمديد بدون تهمة أو سقف زمني لمعتقلين أغلبهم مدنيون. ويقبع حاليًا في سجون الكيان الصهيوني أكثر من ١٠ آلاف أسير يتعرضون لأشكال مروعة من التعذيب الجسدي والنفسي والإهمال الطبي، والمعاملة الحاطة بالكرامة، وبشكل منهجي، وعلى مرأى ومسمع العالم كله، وفي مقدمة دول العالم هذه الدول العربية والإسلامية، وكذلك الغربية التي كشفت أحداث السابع من أكتوبر مدى ازدواجية المعايير لديها، وخاصة في ملف حقوق الإنسان الذي كانت تدعي زورًا أنها حامية له.
لقد غابت التعليقات الرسمية الغربية على مشاهد التنكيل والتعذيب الوحشي للفلسطينيين الأسرى، والتي تسربت من سجون ومراكز اعتقال الكيان الصهيوني المجرم. فلم تجرؤ الحكومات الغربية ـ التي طالما تشدقت بحقوق الإنسان ـ على التعليق على هذه المشاهد المروعة، وتجاهلتها عمدًا ما يدل على ازدواجية في المعايير والأخلاق. لكنها بالمقابل أقامت الدنيا ولم تقعدها على عشرات من الأسرى الإسرائيليين الذين اختطفتهم حماس؛ بهدف مقايضتهم بالأسرى الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال منذ سنوات طويلة.
وكانت حريصة ـ بشهادة الأسرى أنفسهم ـ على معاملتهم معاملة حسنة والحفاظ على أرواحهم بالرغم من الظروف الوحشية القاسية التي فرضتها آلة الحرب الصهيونية على قطاع غزة، والإبادة الجماعية التي تعرض لها القطاع ما تسبب في وفاة عدد منهم تحت الأنقاض؛ نتيجة للقصف الإجرامي العنيف الذي تعرض له القطاع، وشمل البشر والحجر.
لقد جرم القانون الدولي في كل أدبياته ونصوصه التعذيب؛ حيث يعد التعذيب جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، وهي محظورة تمامًا، ولا يمكن تبريرها تحت أي ظرف. فقد فرض كل من القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان حظرًا مطلقًا على التعذيب، وغيره من أشكال المعاملة القاسية أو المهينة أو الاعتداء على الكرامة الشخصية، وذلك وفق نص المادة (١٧) من اتفاقية جنيف الثالثة للعام ١٩٤٩م، والبروتوكول الإضافي الثاني للعام ١٩٧٧م، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو غير الإنسانية أو المهينة لعام ١٩٨٤م، وكذلك ما نصت عليه المادة (٧) المعنية بالجرائم ضد الإنسانية، والمادة (٨) المعنية بجرائم الحرب من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وغيرها من الصكوك الدولية.
لقد أكدت مقررة الأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في فلسطين فرانشيسكا ألبانيز، ومنظمة هيومن رايتس واتش ومنظمة العفو الدولية، والعديد من المنظمات الدولية والإسرائيلية غير الربحية إدانتها لهذا التعذيب المنهجي للفلسطينيين الذي يعد وصمة عار على جبين الإنسانية. ولكن ما شجع الكيان الصهيوني المجرم على الاستمرار في جرائمه هذه هو السكوت المشين للولايات المتحدة والحكومات الغربية عن الإشارة لهذه الجرائم، وكأنها لم تحدث، والدفاع المستميت الظالم لهذه الحكومات عن كل ما يصدر عن الكيان المجرم، ومعاملته ككيان فوق القانون الدولي محصن ضد أية مساءلة.
ولكن ما يثير الأسى والحزن حقًا أن النظام الرسمي العربي نفسه تجاهل هذه الجرائم البشعة، ولم يكلف نفسه حتى عناء الشجب والتنديد المعتاد. فهل بعد هذا يمكن أن نعتقد أن هناك من يضع وزنًا لهذا النظام الرسمي العربي الذي لم يملك حتى الجرأة على التنديد بهذه الجرائم؟
خالد بن عمر المرهون متخصص في القانون الدولي والشؤون السياسية
