ما وراء الإلغاء المشروط «لتأشيرة الشنجن» لدول خليجية عربية

07 ديسمبر 2022
07 ديسمبر 2022

يستوقفنا كثيرا الشرط الوجوبي للاتحاد الأوروبي لإعفاء دول خليجية عربية من تأشيرة الشنجن، وهو وقف عقوبة الإعدام، ولا نعتقد أن هناك عقلا سياسيا خليجيا سيقبل هذا الشرط الذي يمس جوهر أيديولوجية الشعوب الخليجية، كما أننا نجزم أن هذا الشرط لن يكون الأخير إذا ما قبلت به الدول الخليجية، بل سيكون مقدمة لشروط متتالية ومتصاعدة بصورة ممنهجة، خاصة إذا ما علمنا بطبيعة السم الذي في عسل وثيقة الشراكة الأوروبية الخليجية الجديدة، وقد ذكرنا في مقال سابق معنون باسم «الحرية أولى من الحق في عهد الرئيس بايدن» بأن الاستهداف السياسي الأمريكي سينصب على الحريات أكثر من الحقوق لغايات كبرى، وقد حددناها في المقال، والآن ينضم الاتحاد الأوروبي إلى واشنطن التي حولت برنامج المساعدات لوزارة خارجيتها لدعم نشر الإلحاد في الشرق الأوسط، والإلحاد هو من بين أهم الأهداف المشتركة بين أمريكا وأوروبا، ومن هنا نحذر من قبول الشرط الأوروبي، فقبوله يفتح الأبواب الخليجية لإملاءات لا نهاية لها، وتمس ثوابت دينية، تحميها قوانين خليجية.

وفي هذا المقال سندلل على وجود إرادة أوروبية بنسخة محدثة تستهدف فرض الثقافة والأفكار الأوروبية المثيرة للجدل والتي تتعارض بصورة صارخة مع ثوابت خليجية أصيلة، وتتلاقى مع الأجندة الأمريكية، وسندلل على أن إلغاء / وقف عقوبة الإعدام هي مجرد البداية، والبداية مهمة، لأنها تعني إما إغلاق الأبواب في وجه الإملاءات الخارجية أو فتحها على مصراعيها، وسنضع قضية إلغاء / وقف عقوبة الإعدام في سياق وجود خطة ممنهجة لأوروبا بموازنة مليارية، قد تجذب ضعفاء النفوس، وقد يشعروا بالاستقواء بالأجنبي الأوروبي كنظيره الأمريكي، مما قد يدفع بهم إلى وهم الاستقواء بهم مجددا بعد أن تراجعت حالة الاستقواء منذ ثلاث السنوات الأخيرة.

وهناك مشهد اجتماعي متخيل للوضع الداخلي في كل دولة خليجية، خرجنا به من خلال تحليلنا للخطة الأوروبية الممنهجة الممتدة حتى 2027، وظهرت لنا بصورة لا تدعو مجالا للشك بعد قراءة معمقة لوثيقة الشراكة الاستراتيجية الأوروبية الخليجية التي أقرها الاتحاد الأوروبي في يونيو الماضي - وسيكون لنا مقال عنها - لتوضيح العلاقة بينهما، ومن ثم خطورة الانفتاح الأوروبي الجديد على الخليج العربي.

أبرز ملامح هذا المشهد المتخيل:

-فرض الحماية الأوروبية لنخب خليجية لديها أفكار مختلفة عن ثوابت مجتمعاتها، وصناعة أخرى كأدوات محلية لتحقيق أجندتها.

-اختراق مؤسسات المجتمع المدني.

-التركيز على أفكار محددة مستهدفة لذاتها كالمثلية والنسوية والإلحاد، وحرية التعبير، وحريات الدين، وحرية الصحافة.. الخ.

ولنا في تجارب عربية كدول المغرب العربي في السبعينيات والثمانينيات نموذجا يجعلهم مكشوفين لنا الآن، والانكشاف ليس من المنظور التاريخي فحسب، وإنما سيكون كذلك من خلال الكشف عن برامج اعتمدت مؤخرا لتعزز الانكشاف التاريخي، وكذلك على الدول الخليجية الست دراسة ما حدث في الثمانينيات والتسعينيات عندما أخفقت في إدارة الاختراقات الأجنبية، وتركتها تطال حتى جمعيات المرأة في دولة خليجية، وتركت الفراغ للأمريكان لاختراق النخب، وحتى مخرجات كليات الإعلام التي كانت تمنح دورات على حسابهم في الخارج، وقد كانت لنا مقالات قديمة حول هذه الاختراقات منشورة محليا، مما يبدو لنا السيناريو سيتكرر إذا لم تكن هناك إدارة دولة متخصصة وذكية.

نضع هذا الملف فوق الطاولات السياسية الخليجية، ولن نتمكن في عجالة المقال، أن نلم بكل تفاصيله ومآلاته، وسنحاول أن نختزلها كلها في محورين أساسيين، على أن نترك الثالث لمقال مستقل عن السم الذي يودعه الاتحاد الأوروبي في عسل شراكته الجديدة مع دول مجلس التعاون الخليجي.

أولا: برنامج أوروبا العالمية «لتعزيز» حقوق الإنسان وحرياته.

صدر هذا البرنامج عام 2021، وهنا ينبغي التوقف عند مفردة «تعزيز» وذلك على اعتبار أن هناك وثائق أوروبية لحقوق الإنسان وحرياته، كالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان 1950، وبروتوكولاتها المتعددة، مما تظل القضية التي تشغل الآن الاتحاد الأوروبي هي تعزيز الحقوق والحريات على الصعيد الخارجي، وقد أقيمت لها مؤسسات أوروبية متخصصة، من بينها الرابطة الأوروبية لدعم المثليين، وتعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مستهدفة في المقام الأول التي يصفها الاتحاد الأوروبي بأنها من أولوياته المتجددة، وداخل هذه المنطقة الواسعة، يقع الخليج العربي في قلب هذه الأولوية، لكن أية حقوق وحريات ستحظى بالتعزيز الأوروبي في الخليج الآن ؟ نجدها محددة بصورة واضحة في البرنامج نفسه، وسنرى أنها تركز على الحريات أكثر من الحقوق على غرار الاتجاه الأمريكي الجديد.

ونحصرها في النقاط التالية:

-الحرية الدينية، وحرية التعبير، وحرية الصحافة والإعلام المستقل، وحرية تكوين مؤسسات المجتمع المدني.

-الديمقراطية

-الأفكار، مثل النسوية والمثلية والإلحاد.

وقد خصص الاتحاد الأوربي مبلغ 1.7 مليار يورو لدواعي تعزيز تلكم الحريات، وستصبح سفارات دول الاتحاد الأوروبي وتحديدا اثنتين منها، من بين أهم الأدوات التنفيذية للأولوية الأوروبية في مجال الحريات خصوصا، وستستهدف وفق محددات حاكمة في البرنامج في دعم وحماية المدافعين عن الحريات، والوقوف مع المنظمات المستقلة، ومساعدتها على فتح فروع لها داخل المنطقة، كما تتجلى أدوات التعزيز كذلك في مساءلة الدول عن انتهاكات الحريات والحقوق، والدفاع عن الممارسة «الكاملة والشاملة» للحريات الأساسية، وما بين المزدوجتين قد وردتا بصيغتهما في البرنامج الأوروبي، وللممارسة الكاملة والشاملة دلالات واضحة، ومعان لا لبس فيها أو غموض.

وقال جوزيب بوريل الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي «إن الشجعان من جميع الخلفيات يقاتلون يوميا من أجل حرياتهم المدنية، ومن أجل وسائل الإعلام المستقلة، وحماية المؤسسات الديمقراطية، وغالبا ما يكون ذلك في مواجهة مخاطر كبيرة». وأردف قائلا: «الاتحاد الأوروبي يقف إلى جانبهم الآن من خلال البرنامج..» وستكون مدة البرنامج حتى عام 2027، وهذا يعني أن 1.7 مليار يورو يستوجب إنفاقها خلال هذه المدة الزمنية في تعزيز الحريات والحقوق، مما قد تشهد المنطقة إغراق الأموال على النخب والمؤسسات داخل المنطقة.

ثانيا: تأشيرة الشنجن مجرد البداية.

في إطار ما سبق ذكره، جاء وقف / إلغاء عقوبة الإعدام كشرط لإلغاء تأشيرة الشنجن لدول مجلس التعاون الخليجي وفق ما كشفته لجنة الحريات المدنية في البرلمان الأوروبي، في سياق الماهيات الجديدة للاتحاد الأوروبي لتعزيز الحريات والحقوق، مما يعتبر هنا مدخلا لقيادة المتغيرات الحديثة في الخليج، وإلا، فما علاقة سفر الخليجيين إلى أوروبا بعقوبة الإعدام ؟ إنها مجرد مدخل لتنفيذ الأجندات، لكنها غبية رغم قوة غايتها السياسية، فالسفر إلى أوروبا يهم فئة النخبة في الخليج، ولو غيرت النخبة وجهتها نحو مناطق أخرى غير أوروبا، فالمتضرر دول الشنجن، لذلك، لا تجد دول الخليج العربية نفسها مضطرة لقبول الشرط الأوروبي، إلا إذا أرادت إرضاء الأقلية على حساب الأغلبية، وهذا بقدر ما سيكون اختراقا فكريا لأوروبا، سيتبعه مجموعة اختراقات، سيجعل المجتمعات الخليجية تشعر بعدم حماية حكوماتها لثواباتها الدينية، وتنازلا عن قوانينها الداخلية التي تحميها -أي ثوابتها-.

لذلك لم تختر أوروبا الوسيلة القوية التي تحقق غايتها من وقف / إلغاء عقوبة الإعدام، فالغاية أكبر من الوسيلة، وهي - أي الغاية - تتعلق بصناعة البيئة السيكولوجية لنشطائها والمدافعين عن أجندتها للعمل داخل المنطقة الخليجية لإحداث التحولات الفكرية والأيديولوجية دون الرعب من عقوبة الإعدام، كما تتجلى غايتها في تعويم الحرية الدينية، بحيث يترك للمواطنين في الخليج اختيار تغيير دينهم دون أن تلتصق بهم تهمة الردة، وتتهيأ كل الظروف المواتية لنجاح الحرية الدينية في المنطقة في ظل جيل من الشباب الخليجي ضعيف التأسيس والتأطير الديني، وستصبح كل جماعة أو مؤسسة تملك الأموال والتنظيم الجيد أن تنجح في اختراقاتها، وستدخل المنطقة في صيرورة التحولات الفكرية.

فلا ينبغي التقليل من الشرط الأوروبي لإلغاء تأشيرة الشنجن، وعلى الساسة في الخليج أن يولوا هذه القضية ما تستحقه من أولوية عاجلة خاصة في ضوء ما كشفه الاتحاد الأوروبي في يونيو الماضي عن شراكة استراتيجية مع الخليج تدغدغ العواطف السياسية بالقضايا الأمنية والاقتصادية المشتركة في عالم مضطرب يصارع الآن على إقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، لا تعلم أوروبا يقينا مع من ستكون فيه، وكل من يقرأ في الوثيقة الاستراتيجية بند الشراكة المجتمعية بين أوروبا والخليج سيخرج منها بأنه - أي البند - بمثابة السم في العسل، ولا يمكن أن ينفصل برنامج تعزيز الحريات والحقوق عن الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين، حيث سيكون البرنامج الأداة المالية لها.

ويستوجب على المؤسسات الخليجية سواء على صعيد كل دولة كمؤسسات حقوق الإنسان الحكومية أو الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي دراسة الإكراهات الأوروبية الجديدة في مجال الحريات والحقوق، وتقديم مرئيات عاجلة لصناع القرار السياسي من حيث التأثير والحلول، حيث ستشهد المنطقة الخليجية اختراقات أوروبية وأمريكية بصورة غير مسبوقة تستهدف الثوابت الأصيلة، فلا يمكن تمكينها من النجاح، ونجاحها يعني قلب المفاهيم وإحلالها بأخرى دخيلة عن بيئتها، وبتغيير المفاهيم ستتغير الأفكار الأيديولوجية، وبتغييرها ستتغير كذلك الأفكار السياسية، ويراد لها تغريب الخليج فكرا وحياة، ومن المؤكد أنها كذلك ستطال المنتوجات السياسية الحاكمة بين الحاكمين والمحكومين.