ما بعد الحرب.. هل من إمكانية للدولة الفلسطينية؟

20 يناير 2024
20 يناير 2024

منذ عملية 7 أكتوبر عاد الحديث السياسي والدبلوماسي، أكثر مما سبق، حول خيار حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، الذي كانت نواته القرار 242 الذي أصدره مجلس الأمن في أعقاب نكسة 1967 والتي احتلت فيها إسرائيل ما تبقى من الأراضي الفلسطينية في القدس والضفة الغربية وغزة إلى جانب هضبة الجولان على الأراضي السورية وشبه جزيرة سيناء على الأراضي المصرية. وعلى الرغم من الرفض الفلسطيني (الشعبي والرسمي) للقرار، فإن منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني قد اعترفت به كأساس قانوني في ميثاقها الوطني الذي تم تعديله لاحقا، ما يعني التراجع مرحليا عن الكفاح المسلح والعمل سياسيا لإقامة الدولة الفلسطينية التي مثلت الهدف لمفاوضات أوسلو من وجهة النظر الفلسطينية، وما نتج عنها من إعلان وثيقة المبادئ التي نصت على ترتيبات الحكم الذاتي للسلطة الفلسطينية مع التفاوض مرحليا حول باقي الملفات. وعربيا، مثَّل القرار 242 أساس المبادرات التي طرحتها الدول العربية لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وآخرها المبادرة العربية في 2002 والتي نصّت على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في 1967 والعمل على إقامة دولة فلسطينية مقابل السلام العربي مع إسرائيل. وأمام التعنت الإسرائيلي وتوقف مسار السلام الفلسطيني-الإسرائيلي منذ 2014 إبان إدارة الرئيس باراك أوباما والحكومة الإسرائيلية اليمينية برئاسة رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتانياهو، الذي صرّح بموقفه الرافض لاتفاقية أوسلو واعتبارها «خطأ فادحا» بإعطائها للفلسطينيين كيانا سياسيا تمثيليا على الأرض، حتى وإن لم يكن مستقلا عن الإدارة الإسرائيلية، بما يتناقض مع العقيدة الشوفينية لليمين الإسرائيلي الداعية للقضاء على الفلسطينيين وأي جسم سياسي فلسطيني بما في ذلك السلطة الفلسطينية، وعن رفضه القاطع لحل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في تعارض صريح مع الاستراتيجية الأمريكية لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فقد تم تجميد الوضع على الصعيد السياسي، مع التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية لا سيما في المناطق «ج»، وتصاعد الإرهاب الإسرائيلي من اعتقالات واغتيالات واقتحامات مع تتالي الحكومات الإسرائيلية.

ولم تُحدث اتفاقيات السلام التي عُرفت بالاتفاقيات الإبراهيمية أي تغييرات على الوضع الفلسطيني أو موقع إسرائيل في المنطقة، بل كانت من منطلق العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية الثنائية مع إسرائيل. ولم يعُد الحديث حول تحريك المياه الراكدة في الوضع الفلسطيني إلا مع استراتيجية إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التي كانت تريد تخفيف أعباء مسؤولية الشرق الأوسط عليها، بتحقيق استقرار في المنطقة عبر تحقيق سلام (سعودي-إسرائيلي) بين أهم الحلفاء لها. ومن بين الشروط التي أعلنها الطرف السعودي مقابل السلام هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة عودةً لحل المبادرة العربية والقرارات الدولية، وهو ما أبدت عليه الحكومات الإسرائيلية السابقة والحالية موقفا رافضا له رغم إعلان الولايات المتحدة قبولها به.

ورغم مضي المفاوضات برعاية الولايات المتحدة فإنها لم تفضِ حتى 7 أكتوبر عن نتائجها وعن شكل التطبيع الذي ستكون عليه العلاقات السعودية مع إسرائيل. وتوقفت مؤقتا في أعقاب حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة والعنف المتصاعد في الضفة الغربية، إلا أن الدول العربية، ومعها المملكة العربية السعودية، لم تخل بياناتها ولقاءاتها الرسمية منذ 7 أكتوبر من التأكيد على حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة لوقف تكرار أشكال المعاناة الإنسانية التي يمر بها الفلسطينيون على الأراضي المحتلة المرتبطة بالوضع السياسي الحالي للفلسطينيين تحت الاحتلال. فهل من إمكانية لتحقيق الشرط السعودي، والعربي من ورائه، وتحقيق حل تاريخي في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي رغم الرفض الشعبي المتزايد لكافة أشكال التطبيع مع إسرائيل؟

من الصعب التنبؤ القطعي بطبيعة اليوم الذي يلي الحرب وخاصةً أن الحرب لم تضع أوزارها بعد وما تبديه جميع الأطراف من تناقضات وتغيرات في المواقف مع استمرار الحرب، لكن بقدر ضرورة الحديث عن وقف إطلاق النار ووقف الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل، فإنه من الضروري أيضا الحديث عن المسار السياسي الذي يلي الحرب على الصعيد الفلسطيني خصوصا والعربي عموما، والذي يحكم بدوره ترتيب العلاقات الفلسطينية-الفلسطينية والفلسطينية-الإسرائيلية وحتى العربية-الإسرائيلية وما تحمله من تأثيرات كبيرة على مصير وحياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بعد الحرب. ومع غياب الهدف والمسار السياسي لحماس من عمليتها، إلا أنها أبدت استعدادها على لسان أعضاء من المكتب السياسي في أكثر من لقاء لقبول برنامج منظمة التحرير القائم على الاعتراف بإسرائيل وإقامة الدولة الفلسطينية، والاستعداد لتجاوز الانقسام الداخلي الفلسطيني مع عدم إمكانية القبول بإقصاء حماس من أي ترتيب فلسطيني داخلي. وأبدت أصوات في منظمة التحرير الموقف ذاته باعتبار حماس جزءا من النسيج الوطني الفلسطيني الذي لا يمكن إقصاؤه. وهذا ما لا ترغب فيه إسرائيل التي تشن هجوما بريا وجويا ليس فقط للقضاء على حماس عسكريا في قطاع غزة بحسب ما تُعلن حكومة الحرب الإسرائيلية -والذي تفشل حتى الآن في تحقيقه- بل حتى للقضاء عليها سياسيا آنيا ومستقبلا، وتؤيدها الولايات المتحدة في ذلك، بما قد يحمله من مؤشر لفشل إسرائيل في تحقيق أهدافها. ولا ينفصل اغتيال القيادي صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في لبنان عن هدفها في توجيه ضربة قاصمة من خلال قياداتها الفاعلة في القرار السياسي والعسكري للحركة. ورغم ذلك فإن ترتيب البيت الفلسطيني الذي ترعاه مصر عبر لقاءاتها التشاورية مع جميع الأطراف الفلسطينية يمضي على قدم وساق، مع تأكيد وزير الخارجية للولايات المتحدة أنتوني بلينكن في زيارته الأخيرة ولقائه مع الرئيس الفلسطيني على ضرورة القيام بإصلاحات في السلطة الفلسطينية وعلى تصورات الولايات المتحدة للدولة الفلسطينية وبنية السلطة الفلسطينية لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط وهذا ما يلاقي رفضا عربيا وفلسطينيا كونه يتناسب مع المصلحة الإسرائيلية والأمريكية التي لا تعطي للفلسطينيين استقلالهم أو حقهم في تقرير المصير، ودون أن تبدي أي مؤشرات لوقف إطلاق النار ما دامت الحكومة الإسرائيلية مستمرة في تنفيذ باقي مراحل حربها على القطاع. وبات الطرف السعودي ودبلوماسيوه، يؤكدون أكثر مما سبق على رؤيتهم لتحقيق الاستقرار بالسلام مع إسرائيل مقابل الدولة الفلسطينية، الذي قد تقدِّم فيه الحكومة الإسرائيلية تنازلا عن غطرستها وتقبل به في ظل عدم تحقيقها أيا من أهدافها الاستراتيجية في الحرب على غزة، بما يضمن لها تسجيل انتصار سياسي بإقامة علاقات مع دولة ذات ثقل استراتيجي وجيوسياسي في المنطقة، والذي قد يفتح لها باب التطبيع مع باقي الدول العربية والإسلامية. وقد يصطدم هذا الخيار مثلما اصطدم طيلة العقود الماضية بعدم القبول الرسمي والشعبي -اليميني واليساري- الإسرائيلي بأي حلول أو أنصافها قد يغير طبيعة الوجود السياسي الفلسطيني لصالح الفلسطينيين، وتحديدا مع توسع بناء المستوطنات في الضفة الغربية الذي ينم عن موقف إسرائيلي في عدم القبول بأي تغيير في العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية والرغبة في القضاء على الوجود الفلسطيني لتكريس يهودية الدولة مع احتفاظها بسيطرتها العسكرية والأمنية للمناطق التي لا تخضع لها بشكل مباشر بإبقاء شكل الحكم الذاتي للفلسطينيين عبر السلطة الفلسطينية. ومن الممكن أن تقبل إسرائيل بتوسيع صلاحيات السلطة ومناطق إدارتها لتشمل غزة، تحت الضغط الأمريكي والإقليمي الذي يتنصل من مسؤولية الإدارة وإعادة الإعمار في غزة ما دامت إسرائيل تُبدي الموقف نفسه في التعاطي الإبادي مع الفلسطينيين في الضفة وغزة.

وعلى العموم، ما زالت التغييرات السياسية في مجمل العلاقات لم تحمل شكلها النهائي لما يفرضه استمرار الحرب من معطيات ومتغيرات جديدة ذات تأثيرات متغيرة على جميع الأطراف الفلسطينية والإقليمية والدولية، لكن المؤكد أن الواقع الفلسطيني والعربي وطبيعة التحالفات السياسية والأمنية في المنطقة بعد 7 أكتوبر مختلفة عما سبقه، وقد يحمل بذور الدولة الفلسطينية المستقلة وصولا للدولة الواحدة.

سهى العبرية كاتبة وباحثة مهتمة بالشأن الفلسطيني