ما بعد البيروقراطية.. وضرورة التحوّل الإداري

26 سبتمبر 2021
26 سبتمبر 2021

صيف 1987م.. مختلف عمّا سبقه من الأصياف، فقد أنهينا فيه 12 عاماً من التعليم المدرسي، وفجأة تحولنا من فتية إلى رجال. لقد كان الفرح يطير بي من مدرسة بلعرب بن سلطان الثانوية ببَهلا إلى جامعة السلطان قابوس، التي حجز لي فيها مقعداً مجموعُ درجاتي في الثانوية العامة. وما إن أُعلن للطلبة توزيع شهاداتهم؛ حتى أثرت النقع نحو دائرة التربية والتعليم بنزوى، ولمّا استلمت شهادتي بادرني الموظف بأن آخذ معي شهادات زملائي، لأكفيهم مشوار الطريق. استلمت الشهادات عائداً إلى البلاد، لأوزعها على أصحابها.

صيف 2021م.. بينما أولادي يقضون إجازتهم الصيفية في بَهلا، لائذين عن رطوبة جو مسقط، ومستمتعين بقيظ النخيل، وبمشهد السُحُب العابرة؛ التي اعتادت أن تمطر نفضةً بين متفرق الأيام، أُعلن عن نتائج شهادة الدبلوم العام، التي حملت إلينا خبر تفوق ابنتي، فغمر قلوبنا فرحاً. وجاء وقت استلام نتيجة الدرجات، من مدرستها بالسيب، وكان الشرط أن تستلم الطالبة نتيجتها بنفسها، أو يستلمها ولي أمرها. وبما أن البنت كانت مع إخوانها في بَهلا، وأنا ملتزم بعملي، طلبت من خالتي التي تجاور المدرسة؛ أن تذهب لاستلام النتيجة، فذَهَبَتْ.. وقيل لها لابد من مجيء البنت أو ولي أمرها، فأخبرتهم.. بأني خالة ولي أمر الطالبة، وعملي في التربية والتعليم، وأعرف أن تسليم النتيجة مع دلائل التثبّت لا إشكال فيه، إلا أن الرد أكد بأنه بدون تحقق الشرط فلا نتيجة تستلم، فرجعت الخالة بـ«خفي حنين»، مما ألزمني في اليوم التالي قطع جزء من وقت عملي، والذهاب لاستلام النتيجة من المدرسة، وبالحق.. أعجبت بخُلُق المعلمات ورُقيّ تعاملهن، مما أستوجب عليّ شكرهن مرتين، مرةً على حُسن تعاملهن، ومرةً على تعليمهن ابنتي.

أخذت أفكر في هذا الوضع.. لماذا قبل ثلاثين سنة كانت الأمور تجري بسلاسة، وكانت ديناميكية الحياة هي الفعل القائم؟ إن الناس هم الناس، لم تتغيّر أخلاقهم الفاضلة. إذاً.. المشكلة ليست في الموظف، وإنما في النظام الذي يسلكه. إنها البيروقراطية.. فما هي؟

كان لكل جهة أسلوبها في إنجاز إجراءات العمل، وعلى الإنسان أولاً فهم طريقة الجهة التي يتعامل معها، فلا يوجد تقليد متفق عليه بين جميع الجهات، مما جعلها لا تُنجَز بسلاسة وسرعة، كما لا شيء يضمن تغيّر الطريقة بتغيّر العاملين وأمزجتهم، وبهذا يتوه صاحب المعاملة في سراديب الإجراءات، وقد تُفقَد المعاملة دون القدرة على تتبعها ومعرفة المتسبب بذلك، ومع تعقِّد أنظمة العمل الإداري بتقدم الحياة؛ أصبح الوضع محتاجاً لنظام يحل هذا الإشكال؛ فكانت البيروقراطية.

البيروقراطية.. باختصار؛ هي التقاليد الإجرائية لإنجاز العمل، مما يجعل الإنسان عارفاً قنوات إنجازه، ومقتدراً على تخليص إجراءاته، مهما كانت درجة مداركه وتنوّع مهامه. وكان يُراد من هذا النظام تحقيق أربعة مبادئ عليا؛ هي:

1. السهولة؛ في فهم سُبُل إنجاز العمل، فلا يحتاج المراجع للمؤسسة لكي ينجز عمله أن يفهم أسلوبها مستقلاً، بل تكفي معرفته للنظام العام الذي يشمل الجميع، فالمعاملة تدل طريقها بنفسها.

2. السرعة؛ في الإنجاز، فالمعاملة تأخذ مجرى معتمداً، وبوصولها إلى نقطة فيه يسارع الموظف إلى تخليصها، والدفع بها إلى النقطة التالية، حتى تصل منجزةً إلى صاحبها دون بطء.

3. القدرة؛ على حل المشكلات التي تعترض المعاملة، فالنظام يحدد حركتها، وبالإمكان إبصار النقطة التي تتوقف عندها، وهناك تسلسل هرمي يمكنك الصعود إليه لحل المشكلة، فمجموعة من الموظفين عليهم مسئول، والمسئولون يرجعون لمدير. وهكذا.. بالإمكان أن تذلل أية عقبة؛ بمراجعة المعني في الهرم الإداري.

4. العدالة؛ فالمعاملة من أي شخص -بغض النظر عن منزلته الاجتماعية ومنصبه السياسي وجاهه المالي- تأخذ نسقاً واحداً في تنفيذ إجراءاتها، فلا إهمال لها، ولا محسوبية، ولا تجاوز للنظام.

من ينظر إلى هذه الأمور يجدها إيجابية، وتضمن سلاسة العمل، وسهولة تنفيذه، واختصار الوقت لإنجازه، وتمنع الحيف فيه، إلا أن العالَم الآن يأن من ثقل البيروقراطية، وأصبح ذكرها يشير إلى خمول العمل وضعف الإنتاج، بل يشيء بالفساد في الجهاز الإداري، فانقلب معناها؛ من الجانب الإيجابي الذي وضعت له، إلى سلبيات تخلّف الجهاز الإداري، فما السبب؟

منذ التنظير العلمي للبيروقراطية، والتطبيق العملي لتقاليده؛ وُجّه النقد إليها، ولكنه نقدٌ لا ينبغي أن ينسينا القفزة النوعية التي شكلتها في إنجاز العمل وإدارته، فقد حصل فرق حقيقي ما بين تطبيقها وما قبل تطبيقها. إلا أنها لم تسلم من النقد الواقعي، وهنا لا يعنينا تتبع النقد، حيث يمكن الرجوع إليه في الدراسات التي عُنيت بالجهاز الإداري، وإنما يعنينا التنبيه على الغرض الذي وضعت له، والتأكيد على المبادئ التي جاءت لأجلها، في سبيل القيام بالعمل على أفضل وجوهه.

اليوم.. في بلادنا؛ نلمس أن أنجح المؤسسات في إنجاز العمل المتعلق بالمدنيين هو جهاز الشرطة، وهو جهاز منبثق من المؤسسة العسكرية. وأية مقارنة بينه وبين مؤسسة مدنية لا تستقيم أمام سهولة التعامل معه وسرعة إنجازه للعمل، حتى أن المرء عندما ينظر إلى تطبيقات هذا الجهاز للبيروقراطية؛ يخال بأنها مبرأة من كل عيب، في حين يصمها بالنظر للقطاع المدني بالخلو من كل حُسن، ولا غَرْوَ.. فالبيروقراطية بكونها علماً، جرى التنظير لها وتنظيمها عملياً وإقرارها بروتوكولياً في المؤسسة العسكرية، على يد الفيلسوف الاجتماعي ماكس فيبر (ت:1920م)؛ الذي كان ضابطاً في الجيش الألماني، فاستعار الإجراءات العسكرية المتسلسلة والصارمة لينقلها إلى الأنظمة المدنية، ولذلك.. نجحت في الحقول العسكرية. ورغم ما أدته من دور رائد في القطاعات المدنية، إلا أنها بمرور الزمن تكلّست، ومهما حاولت الأنظمة تفعيلها بعد جمودها، وترشيقها بعد ترهلها، فلن تفلح كثيراً. وربما القطاع الخاص قد استطاع أن يواكب مبادئ البيروقراطية إلى حدٍّ لا بأس به، بانسيابية العمل وجهوزية العاملين، لأجل تحقيق الربح، وعدم انصراف الزبائن.

ولو أوتي الجهاز الإداري قدرات نافذة على الإصلاح؛ فلن يتمكن من تفعيل البيروقراطية، لأنها بصورتها المتواضع عليها قد أدبر زمانها، وتجاوز كثيراً من أدواتها. وإن كانت البيروقراطية قد انتُقدت منذ زمن منظّرها ماكس فيبر، وكُشِفَ عن كثير من عيوبها، فإن إشكالها الآن لا يقف عند عيوب بعينها، فقد طوت التكنولوجيا الرقمية إلى غير رجعة كثيراً من أساليبها الفعّالة في وقتها، وحان الحين.. لكي تُرسَّخ تقاليد جديدة لإنجاز الأعمال وفق لغة العصر وأدواته، وبالحق.. ليس هناك ما يدعو إلى «اختراع العجلة» لإيجاد نظام «ما بعد البيروقراطية»، فنحن نعيشه عملياً، حيث الذكاء الاصطناعي فرض آلياته، وإنما المطلوب من الجهاز الإداري أن يواكب هذا التقدم الرقمي الهائل، وأن يصمم نفسه وفقاً لسرعة التحولات العالمية. وعوداً إلى ما قدمتُ؛ فهل من داعٍ بأن يذهب الطالب أو ولي أمره إلى المدرسة لاستلام كشف الدراجات، في حين.. بالإمكان إرسال الكشف رقمياً بضغطة زر في أقل من ثانية؟!

على الجهاز الإداري أن يتجاوز بروتوكولات البيروقراطية المعتادة، بل عليه أن يتجاوزها بأسرها؛ بما في ذلك اسمها، وأن يطويها بيد الشكر، ويرفعها في تأريخ الأنظمة التي تعاقب الإنسان على الاستفادة منها، وأن يعلن بأنه اعتمد نظام «ما بعد البيروقراطية» كما صرّح العالَم بأنه دخل «ما بعد الحداثة». وكل ذلك.. يمكن أن يتحقق بثلاث خطوات لم تعد صعبة:

الأولى: توفير إنترنت مجانية؛ سريعة، وفي كل ربوع الوطن.

الثانية: تأهيل العاملين في الجهاز الإداري على الأخذ بنظام الحكومة الإلكترونية.

الثالثة: إيجاد منظومة متابعة؛ تحل فوراً المشكلات التي تحصل، وتعمل تلقائياً على تحسين الخدمة وفق آخر تحديثات العالم الرقمي.