ما الحرية وما حدودها؟
لا أظن أن سؤالا أشكل على الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع مثل سؤال الحرية (عنوان المقال)، فبقدر ما تبدو الإجابة عنه سهلة وبديهية، بقدر ما تبدو غامضة وملتبسة.
الإنسان الذي يُولد حرا، ومتساويا مع غيره في الحقوق والواجبات، كما أشار إلى ذلك الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في مادته الأولى، وكما ذهب، قبل هذا الإعلان بنحو ألف وثلاثمائة عام، الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في مقولته الخالدة؛ «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، هو ذاته الإنسان الذي تحكم حياته وتصرفاته وعلاقاته وتقيدّها قوانين وتشريعات ومدونة سلوك وأعراف مكتوبة وغير مكتوبة، باسم الحرية ومن أجل حمايتها. بمعنى آخر، الحرية، التي تُعد القيمة الإنسانية الأسمى، ومن دونها ستبدو الحياة سجنا، هي الحق في أن تقوم بأفعال أو تعبر عنها بالقول أو بأي صيغة تعبير أخرى، ولكن وفق ما يبيحه لك القانون، كما قال مونتسكيو.
هكذا يكون القانون هو الحامي للحرية، وفي الوقت نفسه المقيد لها، لأن القانون، في هذا السياق، هو المُنظم للعلاقات بين قوى المجتمع (الاجتماع البشري) لكي تتمكن من إدارة شؤونها بحرية، والقانون، في عرف الدولة، سلاح شرعي، وعنف مُحتكر لحفظ الحرية والحقوق، ولكن هل الحرية التي يبيحها القانون هي ذاتها الحرية التي يقيدها؟ هذا مصدر آخر من مصادر الالتباس في فهم الحرية وفي ممارستها.
الحرية طيف من الممارسات والحقوق الأصيلة، الفردية والجماعية، بينها ما هو مشترك ومجمع عليه بين الناس، بصرف النظر عن أديانهم ومعتقداتهم وأعراقهم ولغاتهم وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبينها ما هو مختلف عليه باختلاف الأديان والمعتقدات والأعراق واللغات، والأوضاع الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وهو اختلاف، وجب احترامه وحمايته بالقوانين والتشريعات، وبينها ما هو ثابت بثبات الأديان والمعتقدات والأعراف، وبينها ما هو متغير بتغير الثقافة والتعليم ومصادرهما، وبما يطرأ على المجتمعات من تحولات عبر الأجيال.
غني عن القول إن المقولة الشائعة « تنتهي حرية الفرد حين تبدأ حرية الآخر» غير معمول بها، لأن الحدود بين الذات والآخر في المجتمعات المتداخلة، والتي باتت توصف بالمجتمعات الشبكية، هذه الحدود بدورها متداخلة أو غير واضحة، فكيف بمقدور أحدنا قياس حريته في التعبير عما يرى نفسه حرا فيه، من دون أن يكون في ذلك انتهاك لحرية الآخر، أو جرحا لمشاعره، أو لثقافته، أو دينه، أو انتمائه الوطني أو الجماعاتي. الآخر الذي نعرفه والآخر الذي لا نعرفه، لكنه موجود في مكان ما في هذا الفضاء المتشابك؟ هنا يتوقف الأمر على فهمنا للحرية وخبرتنا، على المستوى الفردي والجماعي.. في ممارستها وفي معرفة الحدود بين حرية الذات وحرية الآخر، وهي حدود، في غالبيتها، وهمية نعرفها بالخبرة والممارسة.
تقول الحكومة السويدية (ومثلها حكومات عديدة في الغرب) إن القانون لديها يكفل حرية التعبير، بل ويمنح الحماية المادية له، من دون مراعاة لمشاعر الآخرين - أيا كان عدد أو حجم الآخرين، لأن القانون محايد لا يفرق بين الأقوام والشعوب والثقافات والأديان (هذا الحياد المفترض موضع سؤال آخر)، وهذا ما سمح لمهاجر عراقي بالقيام بحرق نسخة من القرآن الكريم أمام أحد مساجد السويد صبيحة عيد الأضحى، وبهذا الفعل، الذي عدّه الفاعل «الحق في حرية التعبير التي يكفلها القانون السويدي» انتهك مشاعر نحو ملياري مسلم حول العالم، عدا عن المؤمنين الآخرين من الأديان الأخرى. وإذا كان القانون في السويد وفي سواها من الدول التي تفصل الدين عن الدولة في دساتيرها وتشريعاتها، يجيز الحق في التعبير ما لم يكن «ماديا» و«عنفيا»، فإن ما قام به «سلوان موميكا» هو فعل مادي وعنفي، حتى لو كان الذي أحرقه نسخة من كتاب «روح القوانين» لمونيسكيو التي تأسست عليه الدولة الحديثة ودساتيرها في الغرب، وليس كتابا له من القدسية والمكانة الروحية العظيمة ما للقرآن الكريم. وهو فعل فيه من نوايا العنف المادي والمعنوي وإثارة الفتنة، والقصد في انتهاك حريات الآخرين، ما يجعله متعارضا مع مبدأ حرية التعبير، رغم غموض هذا المبدأ والتباسه، فاختيار المهاجر العراقي أحد أعظم الأيام قدسية لدى المسلمين للقيام بفعلته تلك، هو تعبير عن خطاب كراهية وعنف ما يجعله مجرّما وفقا للقانون السويدي. لكن الحكومة السويدية، التي اعتذرت للمسلمين، لم تعلن تجريم الفعل، بل أصرّت على أن حرق نسخة من القرآن الكريم يأتي ضمن حرية التعبير، ما يعني أن الفعل قد يتكرر، وما حصل صبيحة عيد الأضحى لم يكن الأول في السويد، فقد سبقته أفعال مشابهة على مدى السنوات الماضية.
الحال، فيما يتعلق بفهم الحرية وحرية التعبير على وجه الخصوص في بلدان أوروبية أخرى مثل نيذرلاندز والدنمارك وفرنسا، ليس أفضل منه في السويد، خصوصا حين يتعلق الأمر بمشاعر المسلمين ومقدساتهم، غير أن المقاربات تختلف، رغم تشابه النتائج، فبعض الأفعال التي شهدتها هذه الدول خلال السنوات العشرين الماضية -تحديدا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001- تأتي في سياق تنامي ظاهرة رهاب الإسلام أو ما يعرف اصطلاحا «إسلاموفوبيا»، وهي ظاهرة لا تخلو من الانتهازية والتوظيف السياسي ومن أمراض الماضي البعيد في علاقة الغرب بالمسلمين، غير أن هذا نقاش آخر يطول ليس مكانه هذا المقال.
تضيق الحرية وتتسع بضيق واتساع فهمها؛ فكرةً/ ثقافةً، وممارسةً، وبضيق واتساع فهم القوانين والتشريعات والثقافات الحاضنة لها. ودونما ضرورة لتكرار القول؛ إن الحرية هي أعظم ما يمكن للإنسان أن يتمتع به، ومن دونها يفقد الإنسان ما يميزه عن سواه من الكائنات، وهو القدرة والحق في الاختيار، وفي تقدير المسير وتقرير المصير، فإن هذه القيمة الإنسانية السامية عرضة، أكثر من سواها من القيمّ الإنسانية، للهجوم والتشويه، بعضه عن قصد وبصورة ممنهجة، وبعضه عن سوء فهم وسوء ممارسة، وبعضه عن انتهازية مقيتة. وفي كل الأحوال، فإن ألدّ خصوم الحرية اثنان؛ المستبد والجاهل.
يرى المستبد في الحرية تهديدا لسلطته في انتزاع الحقوق والاستحواذ والتعدي دونما حدود أو روادع، فيعمل بشتى الطرق والوسائل على محاربتها والتضييق عليها، ويرى فيها الجاهل إقلاقا لطمأنينة زائفة، فيعمل على تشويهها والتشكيك في أهميتها، أو استغلالها لتحقيق أهداف تتعارض مع مبدأ الحرية ذاته، كما فعل المهاجر العراقي إلى السويد.
وتبقى الحرية، في كل الأحوال، والأزمان والأماكن؛ هدف الأحرار، والباب الذي «بكل يد مضرجة يدقُّ» كما قال أمير شعراء العربية أحمد شوقي.