مأزق الوعي.. بين شعبيته ومستجداته

08 يناير 2023
08 يناير 2023

تنتصر القيم ويشتد عودها في مناخات الثقافة الشعبية؛ حيث تجد المساحة الآمنة للاعتناق والنمو والاحتواء، بغض النظر عن ماهية هذه القيم؛ حيث يلعب التقادم دورا محوريا في التأصيل، ولذلك يكثر قول "لأن آباءنا" مع ما تشير إليه رمزية "الأب" من مكانة في وجدان المجتمع، ولذلك تبقى الصورة تنافح عن أصالتها، ولا ترى في الجديد ذلك البديل الذي يجب أن يحل محل ما هو عليه واقع الحال في لحظة الالتحام به؛ إلا بعد نيف من السنين، ومن هنا تتجذر الصور في الذاكرة الشعبية، ويبقى ليس من اليسير تجاوزها والاستغناء بالبديل؛ حتى لو كان هذا البديل أنفع، لأن الذاكرة تعود دائما إلى استحضار مفردة "آبائنا" وهذا إشكالية موضوعية في الوعي الشعبي، وتحتاج إلى كثير من توالي الأجيال "تراكم الحصيلة الزمنية" لكي تحدث فيها خللا ما، وبالتالي؛ فما بين وعي مستنزف؛ وآخر يتخذ مكانه بفعل أدوات العصر المستجدة، ترتبك حصيلة بعض برامج التنمية، مما يؤدي إلى ضرورة تنفيذ برامج توعوية من شأنها أن تزيل مستوى الالتباس الحاصل في استيعاب جل متطلباتها، مع ضرورة مراعاة أن لا يكون ذلك على حساب القيم الإنسانية، والاجتماعية، لأن التسليم السريع لما تذهب إليه مستجدات الثقافة فيه خطورة غير منكورة، وما نراه اليوم على واقع الحال خير دليل على التسليم السريع من قبل الأجيال.

السؤال؛ ابتداء؛هل يقع الوعي في مأزق التعبوية الشعبية؟ عند تقييم هذه المسألة يتبين أن هذا المأزق حاصل لا محالة، في ظل وعي تتنازعه مجموعة من التجاذبات، حتى يكاد الفرد يتماهى فيها، فلا يظهر له أثر واضح، أو موقف، وقد يساورك العجب لهذا الاستسلام المطلق، وهذا كله يعتمد على الأسس الثقافية التي نشأ عليها الفرد وتأثير ذلك على مجمل سلوكياته، وأنشطته في البيئة التي يعيش فيها، إن لم تكن هناك قوة قاهرة تحد من هذا النشاط، كالبيئات التي تعيش حالات من عدم الاستقرار السياسي على وجه الخصوص، ولعل هذا الأمر – الاستقرار السياسي - بالذات هو الوحيد الذي يقوِّض كل برامج التنمية عن أن تأخذ طريقها نحو التنمية الحقيقية في الدول بشكل عام.

يأتي مفهوم "عرف المرحلة" كأحد الأسس المهمة في ميزان التوافق والاختلاف في شأن هذه الثقافة الشعبية، فإن تم تجاوز هذه المظنة؛ فسيكون هناك نور مضاء في آخر النفق، وإن لم يتم ذلك فإن مسألة تموضع الصور المتأصلة قائمة لكل ما هو متوارث، بغض النظر عن صلاحية هذه "المرحلية" من عدمها، والمرحلية هذه يتوقف صمودها من عدمه على عوامل كثيرة؛ يأتي في مقدمتها: التجربة الإنسانية المتنامية، والتراكم المعرفي؛ والذي غالبه؛ ينفض وينتفض ويتحرر من كل ما هو قديم – ومصطلح قديم هنا في هذه المناقشة معني به فعل الناس وإنتاجهم الاجتماعي؛ لا أكثر – فالقديم في كثير من حالاته لا يمكن له أن يتوازى مع إنتاج المرحلة اللاحقة، ولذلك فـ "عرف المرحلة" يبقى مرتبطا بلحظته الزمنية، وهو قابل للتغيير، إلا إذا حرصت الذاكرة الشعبية على اجترار كل الصور والمواقف التي مرت عليها الذاكرة التي كانت قبلها، وهذا قليل ما يحدث إلا في حالات استثنائية، وهذه الاستثنائية تبقى في الذاكرة التي تعيش بين عصرين، حيث لا تستطيع أن تتخلص تخلصا مطلقا من كثير من الصور التي تختزنها قياسا بتجربتها الاجتماعية، وهذا أمر مفروغ منه، ومسلم له.

يحل مذهب النفعية كقاعدة مؤصلة لتجذير ما هو قائم على ما هو آت، كما هو الفهم الملموس، وذلك لأن ما هو قائم قد لمس الناس منافعه، واستفادوا منه، وأشبع عندهم الكثير من الرغبات والطموحات؛ حيث حققت عندهم مستوى معقولا من الاكتفاء، وأتصور أن هذا الأمر هو أحد الأركان المهمة في حرص الناس على بقاء ما هو موجود، وعدم الانجرار سريعا للبديل، لعدم وضوح الرؤية للبديل في فترته الزمنية القصيرة، ولذلك يبقى هناك نوع من التململ في قبول الجديد، حتى تتضح رؤيته، ومن ثم تدخل النفس صراعها المعروف للقبول أو الرفض، حيث يحتاج الأمر في فترة زمنية غير منكورة لدراسته نفسيا، حيث تحدث المقارنات والتوازنات بين ما هو مكتسب وهو المخزون المعرفي المتأصل من القيم والعادات، وبين ما هو آت للتو، ولذلك يتأخر الوصول إلى قرار نهائي لترجيح إحدى الكفتين على الأخرى، وهذه ما يسمى بمرحلة المخاض التي تمر عليها الأجيال، وهي مرحلة مربكة بلا شك، وفي هذه المرحلة تحدث ردة فعل قوية فترى أن ما هو قائم وملموس أكثر يقينا بما هو آت أو متوقع، فيرفض البديل الآتي؛ حيث لم يحقق الرضى، ولم يصل إلى مستوى الاقتناع به، ومع ذلك يبقى رفضا نسبيا، حيث لا يوجد رفض مطلقا في كل الممارسات الاجتماعية، لاختلاف قناعات الناس، وتمايز خبراتهم الحياتية، ومستويات تعرضهم لمختلف المؤثرات التنويرية.

ينظر إلى الصيرورة الزمنية بكثير من الأمل في إرباك الفهم المتجذر لمختلف القناعات عند أفراد المجتمع، فبقدر ما تلعب الصيروة الزمنية في ترسيخ المفاهيم؛ تلعب في الوقت نفسه إلى النقيض، وذلك كله مرتهن بالتجربة الاجتماعية عند كل فرد على حده، أو كل مجتمع على حده، فالمساحة الزمنية المقتطعة في هذه التجربة هي التي تتيح للأفراد والمجتمعات إما الإصرار على بقاء مكتسبهم الاجتماعي "المعرفي" وإما البحث عن خيارات أخرى تتفق والظروف الآنية في لحظتها الزمنية والظرفية، وفي كلا الموقفين تبقى هناك مواقف للقبول والرفض؛ أيضا في آن واحد؛ فالناس "فيما يعشقون مذاهب" ولا يمكن أن تحدث حالة توافق من الجميع، وإلا لوصلنا إلى مرحلة "مثالية" وهذا ما لايمكن تحقيقه على أرض الواقع فـ "رضى الناس غاية لا تدرك" ولذا يبقى التوافق والاختلاف ملازما في حياة الناس، وفي كل مرحلة زمنية تمر على الأجيال في تعاقبها، وتنوعها، وتوافقها، وتصادمها، وهذا مما يحسب لها، حيث الحياة الاجتماعية بكل تجلياتها، وإلا ما عدت حياة حقيقية إن سادها الصمت، والاستسلام والتسليم، فتوالي الليل والنهار؛ وهو من الصيرورة الزمنية؛ ينبئ عن كثير من التغيير، والاختلاف، وهذه من حكم الله الجليلة في خلقه.

يوجد نوعا من الالتحام بين مصطلحي الباحث عن عمل وثقافة العيب؛ حيث يتوازى المصطلحين توازيا أفقيا، وهذا ما يمكن ربطه بـ "عرف المرحلة" وهذا الأمر لا يتوقف عند ممارسة واحدة أو اثنتين؛ كما هو حالة العمل، وإنما يذهب كذلك إلى حالات الزواج؛ حيث تحضر صورة تفاوت المستويات الاجتماعية، والمستويات المادية، والنظر إليها بكثير من الاهتمام في أمر إتمام الزواج من عدمه، وأشدها إيلاما ما يحدث في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، حيث تجثم الصورة ذاتها في مسائل كثيرة؛ مثل أفضيلة التوظيف، وأفضلية المسؤوليات، وأفضلية الترقيات، وأفضلية المكافآت، حيث تتراجع قيمة المؤهلات، والكفاءات، والمواهب الإدارية والفنية، وترجح كفة الولاءات؛ سواء الولاءات الاجتماعية الوجاهية، أو الأسرية، أو ولاءات تضارب المصالح المادية الأخرى، ومن خلال هذه الصور كلها مجتمعة أو متفرقة في ممارساتها من قبل الأفراد تكون الصورة تراوح ذاتها لمسألة (العرف المرحلي)، ولا يكون لمختلف مؤثرات الوعي أية قيمة، حيث تلوكها الألسنة فقط، ولا يكون لها أي تأثير ملموس على الواقع، ولذلك يمكن القول أن الثقافة الشعبية تستطيع أن تمتلك رصيدا كميا من التعبئة النفسية للعرف الشعبي، بل وتذهب إلى أكثر من ذلك حيث توظفه توظيفا أصيلا على الواقع، ولا تستسلم لأي بديل يمكن أن يأخذ مكانه، ولذلك لن يكون الأمر يسيرا اختراق مجموعة استحكماتها الرصينة، والمتمثلة في مجمل القناعات التي يؤمن بها أفراد المجتمع أو بعضهم، حيث تعود الذاكرة نفسها إلى استحضار "كان آباؤنا" وهي الفهوم الذي يؤول إلى "كلمة حق يراد لها باطل" وهذه من أصعب المراحل التي تمر بها التنمية؛ حيث تتأصل الثقافة الشعبية في عدم قبول المختلف.