لماذا يعزز دعم أوكرانيا الأمن القومي الأمريكي؟

28 يناير 2024
28 يناير 2024

عندما نرى أعضاء الحزب الجمهوري في الكونجرس يعارضون تمديد الدعم الأميركي لأوكرانيا، لا يسعنا إلا أن نتساءل عما حدث لأعضاء أحد الحزبين السياسيين الرئيسيين في الولايات المتحدة. ويتضمن هؤلاء الأعضاء الساسة من الحزب الجمهوري، الذين رغم دعمهم ظاهريا لأوكرانيا، يسمحون لزملائهم بتقييد دعمهم لها بمخاوف غير ذات صلة، تتعلق بالحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك. ونظرًا للعواقب الوخيمة المترتبة على انتصار روسيا المحتمل في أوكرانيا، فمن الواضح تمامًا أن دعم الجهود المبذولة لمساندة أوكرانيا في الحرب لابد أن يكون على رأس أولويات السياسة الخارجية. ولكن من الواضح أن البعض في الكونغرس يحتاجون إلى تذكيرهم ببعض الأحداث التاريخية الأساسية.

في عام 1916، أعيد انتخاب الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، تحت شعار «لقد أبعَدَنا عن الحرب»، في إشارة إلى الحرب العالمية الأولى. وكان هذا يتماشى مع تقليد يعود تاريخه إلى تأسيس الولايات المتحدة، وهو تجنب ما وصفه توماس جيفرسون بـ«التحالفات المتشابكة». وكما قال جون كوينسي آدامز في عبارته الشهيرة في عام 1821، فإن الولايات المتحدة لا تذهب إلى الخارج بحثًا عن وحوش لتدميرها. ومع ذلك، دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى في عام 1917، لأسباب تتعلق أساسا باستئناف ألمانيا لحرب الغواصات، مستهدفة السفن المحايدة، مما أسفر عن خسائر في الأرواح في صفوف الأمريكيين. وكان لوصول القوات الأمريكية إلى أوروبا دور محوري في تغيير ميزان القوى، مما مكن الحلفاء من هزيمة ألمانيا وأدى إلى الهدنة في 11 نوفمبر 1918. وخلال مفاوضات فرساي عام 1919، أقنع ويلسون القوى الأوروبية بتأييد نظام عالمي جديد، يتجسد في إنشاء عصبة الأمم. ولكن عودة الانعزالية إلى الظهور دفعت مجلس الشيوخ إلى رفض معاهدة فرساي، ومن ثم منع الولايات المتحدة من الانضمام إلى العصبة. وانعكس هذا الاتجاه الانعزالي أيضًا في الحماية الجمركية القوية التي زادت من حدة أزمة الكساد الأعظم إلى درجة مبالغ فيها. وبعد عقدين من الزمن، عندما أدرك الرئيس فرانكلين روزفلت أن هناك معارضة شعبية ساحقة لدخول أمريكا في الحرب العالمية الثانية، تعهد أثناء حملة إعادة انتخابه في عام 1940 بإبعاد الولايات المتحدة عن الصراعات الخارجية. وبدلا من نشر القوات الأميركية في أوروبا، أعاد وضع الولايات المتحدة في مركز «ترسانة الديمقراطية»، فأرسل مساعدات عسكرية إلى المملكة المتحدة، التي كانت آنذاك، تواجه آلة الحرب النازية بمفردها. وفي عام 1941، حث وزير الحرب في عهد روزفلت، هنري ستيمسون، لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ على الموافقة على قانون الإعارة والتأجير، قائلا أن تزويد الحلفاء بالموارد الحيوية يعني شراء أمن البلاد. ولكن هذه المناقشة الاستراتيجية أصبحت غير ذات أهمية عندما هاجمت اليابان بيرل هاربر في ديسمبر من عام 1941، وذلك بعد مرور أقل من عام على تسلم روزفلت لولايته الثالثة، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى دخول الحرب العالمية الثانية. وعندما وضعت الحرب أوزارها، كان الرأي السائد بين الأمريكيين هو أن الأوروبيين لم يتمكنوا من إدارة شئونهم الخاصة. وكان الاعتقاد السائد هو أن الولايات المتحدة يجب أن تضطلع بدور قيادي عالمي أكثر فعالية حتى لا تقع كارثة عالمية أخرى.

وخلال السنوات اللاحقة، قادت الولايات المتحدة خطة مارشال وعملية إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي، ومؤسسات بريتون وودز، وغيرها من ركائز النظام الدولي الليبرالي. وقد أثبتت هذه الاستراتيجية نجاحها المذهل، حيث بشرت بثمانية عقود من السلام والرخاء النسبيين في قسم كبير من العالم- وهو إنجاز غير مسبوق تقريبا. وخلال جميع مراحل عصر السلام الأمريكي، كان استخدام القوة لإعادة رسم الحدود الوطنية نادرًا جدًا.

ومن المؤكد أن الولايات المتحدة ارتكبت العديد من الأخطاء في السياسة الخارجية. إذ كثيرا ما كانت تدعم الأنظمة التي تفتقر إلى دعم مواطنيها وحرضت على مواجهات غير ضرورية مع خصومها. وأدى هذا النهج الذي عززه الاعتقاد بأن الانخراط في صراعات خارجية أصغر نطاقا يمكن أن يمنع حروبًا واسعة النطاق في المستقبل، إلى الاعتماد المفرط على التدخل العسكري. وكان هذا واضحا في حربي فيتنام والعراق. ففي فيتنام، أساءت الولايات المتحدة تفسير حركة الاستقلال المناهضة للاستعمار باعتبارها وكيلًا للاتحاد السوفييتي والصين. وفي العراق، ردت الولايات المتحدة على الهجمات الإرهابية التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر 2001، بحرب دولة لا علاقة لها بهذه الهجمات. وكان كلا التدخلين غير مدروسين ومكلفين من حيث الأرواح والموارد. وفي بعض الأحيان كان بندول الرأي العام الأمريكي يتحرك نحو عدم التدخل، كما يتبين من المناخ السياسي الحالي. ولكن التاريخ أظهر أن هذه الفترات عادة ما تكون قصيرة الأجل. وفضلا على ذلك، تتمتع الولايات المتحدة بسجل حافل في إرسال إشارات متضاربة، ليس فقط من خلال فشلها في تنفيذ التهديدات التي أطلقتها، بل وأيضًا من خلال تنفيذ أعمال عسكرية لم تهدد بها. وفي بعض الأحيان، يقارن الليبراليون الأمريكيون، على سبيل المثال، تكلفة ميزانية صندوق الهبات القومية من أجل العلوم الإنسانية (211 مليون دولار في السنة المالية الأخيرة) بتكلفة قاذفة قنابل واحدة (تحمل كل طائرة علامة حدد عليها سعر 750 مليون دولار فيما يتعلق بالقاذفة الشبح B-21 رايدر) وهذا غير مقنع لشخص قد لا يعطي قيمة كبيرة لصندوق الهبات القومية. ولكن عندما يتعلق الأمر بدعم أوكرانيا، فإن المناقشة تدور حول التكاليف والفوائد المترتبة على مختلف نفقات الأمن الوطني. ومنذ فبراير 2022، قدمت الولايات المتحدة مساعدات لأوكرانيا تقدر قيمتها بما يقرب من 75 مليار دولار. ومع أن هذا المبلغ كبير، إلا أنه كحصة من الناتج المحلي الإجمالي أقل من المساعدة التي تقدمها العديد من البلدان الأوروبية، وخاصة الدول الاسكندنافية ودول أوروبا الشرقية. وعلى سبيل المقارنة، بلغ الإنفاق العسكري الأمريكي 812 مليار دولار في عام 2022. وفضلا على ذلك، تشير التقديرات إلى أن حرب العراق، التي لم تسهم بأي شيء في الأمن القومي الأمريكي، وقتلت ما يقرب من 500 ألف شخص، بلغت تكلفتها 3 تريليونات دولار. وخلافًا لما حدث في فيتنام، وأفغانستان، والعراق، فإن الأوكرانيين يدعمون حكومتهم المنتخبة ديمقراطيًا، ويدافعون عن بلادهم بمحض إرادتهم. وفي الوقت نفسه، ما زال المبدأ القائل بأن الحدود الوطنية لا ينبغي تغييرها بالقوة يشكل أهمية بالغة للحفاظ على الاستقرار العالمي ومنع الحروب العدوانية في المستقبل. ولدى الولايات المتحدة أسباب وجيهة لتجنب المواجهة المباشرة مع روسيا، وخاصة خطر نشوب حرب نووية. ولكن كل ما يطالب به الأوكرانيون هي الوسائل اللازمة للدفاع عن أنفسهم، وهي الوسائل التي طالب بها رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل من روزفلت في عام 1940. وخلافًا لأخطاء السياسة الخارجية الأمريكية الأخيرة، فإن دعم أوكرانيا لا ينطوي على خسارة جنود أمريكيين، بل الواقع أنه يساهم في تعزيز الأمن القومي.

جيفري فرانكل أستاذ تكوين رأس المال والنمو في جامعة هارفارد سابقا، وكان عضوًا في مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس بِل كلينتون. وهو باحث مشارك في المكتب الوطني الأمريكي للبحوث الاقتصادية.

خدمة بروجيكت سنديكيت