لماذا يجري هذا في فرنسا منذ عدة عقود؟!
منذ وعينا الحياة ومجرياتها وتحولاتها المختلفة، والمتابعة والقراءة بعد ذلك في أحوال العالم ومستقراته وتوتراته الفكرية والسياسية، منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي وما بعده، كنا نسعد عندما نسمع ونقرأ أن الجمهورية الفرنسية، دولة النور والحرية والديمقراطية، التي لا يشق لها غبار في التمسك بقيم الحرية والتعددية السياسية، ولا تحدها الحدود بما لا يمكن مقارنتها بدول الجوار معها في الغرب الأوروبي في الوقت، أو أنها تتميز عنها بهذه المكانة التي تم تسمينها بهذا اللقب، وهذا جاء بعد قيام الجمهورية الفرنسية الأولى، في سبتمبر 1792، خلال الثورة الفرنسية، وفي ذلك الوقت خُلع الملك لويس السادس عشر، ثم قيام الجمهورية الفرنسية الثانية، ثم الثالثة بعد عدة ثورات وصراعات، وانتهت بانتخاب «نابليون بونابارت» رئيسًا لها في الجمهورية الثالثة، وكانت فترة نابليون، فترة اجتياحات وغزوات للعديد من دول العالم، ومنها العديد من الدول العربية. لكن هذه النظرة أو الكلام الذي يقال تحول إلى نظرة مختلفة، عندما برزت العديد من المواقف والسياسات تجاه المواطنين الفرنسيين من أصول مهاجرة، وعززت الاعتقاد بالكراهية والتهميش التي بدأت تتواصل وتتفاقم لمواجهة الشباب في ضواحي فرنسا.
كنا نسعد ونفرح بأن تكون هذه الجمهورية بهذه الميزة الرائعة في قضية الحريات والنور يسلط عليها من كل الجوانب! لكننا كلما قرأنا وازدادت معارفنا مع الوقت، عرفنا أن فرنسا، قامت على صراعات ودماء وثورات ـ كما أشرنا آنفًا ـ حصدت الآلاف من هذا الشعب في قرون مختلفة. لكن البعض ممن هام في الفكر الغربي الفرنسي خاصة من بعض المفكرين العرب، يتجاهلون هذا التاريخ ومخلفاته وآثاره، التي لم تمح من عقول وأفكار بعض المفكرين والسياسيين تجاه الآخر المختلف، باعتبارها مرحلة انتهت بانتهاء مرحلة متزمتة، بقيت في عقلية القرون الوسطى، وأصبحت فرنسا ديمقراطية وتعددية، تقبل بالاختلاف والتنوع الذي أتى ولن يرحل بسهولة من هذا البلد العصري المتقدم والحديث، ولذلك لا يمكن الرجوع للخلف والعودة لاستبداد العصور الوسطى في أوروبا. لكن هذه الأقوال التي يرددها بعض من أبناء الأمة الذين ذهبوا للدراسة، تأثروا إلى حد الاندماج في الفكر الفرنسي، وأصبحوا يرددون كالببغاء مقولاتهم، دون أن يدركوا أن مقولاتهم تجاه العرب والمسلمين، فكرا وتاريخا، مجرد ترديد لما قاله المستشرقون الذين كانوا تابعين للمؤسسات الغربية، من المنظور الاستعماري.
لكن هؤلاء الطلاب الشباب كانت أعمارهم صغيرة، وزادهم الفكري والعلمي محدود، وهذا سبب تأثرهم بما يطرح عليهم، لكن الغالبية منهم راجع مع الزمن الكثير من الأفكار غير المنصفة تجاه الإسلام وأهله، ولذلك فرنسا هذا البلد الغربي المهم أوروبيا، اختلف كثيرا عن بقية دول أوروبا وأمريكا، التي تختلف كثيرا عن فرنسا في سياستها من حيث القبول بالآخر والعيش معه دون الكراهية أو القمع أو التوترات، خاصة من بعض صناع القرار، ومن اليمين خاصة، ومن غيرهم في فرنسا من الفرنسيين الأصليين، خاصة تجاه المهاجرين من المسلمين ومن غيرهم، وظلت العنصرية البغيضة تلعب دورا سلبيا كبيرا، سواء في التعامل مع الضواحي في أطراف العاصمة الفرنسية، أو التعامل العادي، تجاه ثقافة الآخر وهويته الذاتية، واعتبارها مخالفة للعلمانية اللائكية، التي تعتبر وكأنها دين جديد، بعد الديانة المسيحية التي لم تعد ذات التأثير الأهم في فرنسا بالأخص، بعكس الولايات المتحدة وبريطانيا، وغيرها من الدول الغربية. ونتذكر ما جرى في فرنسا عام 2005، في ضاحية «كليشي سوبوا»، والتي استمرت عدة أسابيع في كل أنحاء فرنسا، بما فيها العاصمة الفرنسية ذات الثقل السكاني، وسببت أزمة سياسية كبيرة للحكومة الفرنسية وللأحزاب السياسية والنخب الفكرية والثقافية أيضا، كما جرت مسيرة في العديد من المدن الفرنسية، نددت بالعنصرية والتهميش، وتم تسميتها بمسيرة (الكرامة ضد العنصرية)، وذلك في الذكرى العاشرة لأعمال شغب جرت في ضواحي المدن الفرنسية قبل هذا التاريخ، وقد سبق وأن خرجت مسيرات قبل 33 عاما تطالب بالحقوق، ووقف التهميش والعنف من الشرطة.
وقد صرح بعض منضمو المسيرة آنذاك أنه بعد ثلاثة عقود على هذه التظاهرة «فإن المضايقات التي يتعرض لها سكان الأحياء الشعبية من السود والعرب وحتى البيض، والإهانات التي يعانون منها تشكل جزءا من حياتهم اليومية». ومع أن رئيس الحكومة الفرنسي آنذاك «ما نويل فالس» قال في 2015، بأن الحكومة الفرنسية «عازمة على محاربة العنصرية والظلم اللذين يعاني منهما سكان الضواحي الفرنسية». وأضاف: «إن مسلمي فرنسا هم أيضا أبناء الجمهورية». لكن الأمر بقى كما كان واستمر التهميش والقمع والإهانات، واستخدام القوة المفرطة أحيانا في الضواحي، وهي أماكن الفقر والظروف المعيشية، وهذه بلا شك سببت هذه التوترات التي تستعاد بين الفترة والأخرى، دون إيجاد حلول إيجابية تمثل التعايش الحقيقي، كما تقول هذه الدولة الديمقراطية، ومنذ أسابيع عادت الأحداث كما كانت تحدث في المرات السابقة، وكأن الأمر له دوافع ومسببات لإعادة التوترات، مع أن ما يحصل يضر بالدولة الفرنسية وبسمعتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وهذا يحدث بعكس غالبية الدول الغربية، التي بها ملايين المهاجرين، والغالبية أيضا منهم يحملون الجنسية الغربية وأصبحوا مواطنين، وهذه إشكالية فكرية وسياسية، وهي أن عدم قبول التعددية داخل أي مجتمع، قد يُحدث التهميش والإقصاء والتعامل بالقوة المفرطة، وكان يمكن أن يتم التعامل بالأسلوب المنطقي والعقلاني المقبول، ويتم حل أي إشكالية، دون اللجوء للعنف والقسوة، إلى حد القتل المفرط، وهذا ما حصل في الأسبوع المنصرم الذي بعدها حدثت الاضطرابات الأخيرة العنيفة، التي كان سببها اغتيال المراهق الجزائري نائل (الذي يحمل الجنسية الفرنسية مع أسرته أيضا). وهي أسرة اندمجت مع المجتمع الفرنسي، كما تحدثت والدته الأسبوع الماضي لبعض القنوات التلفزيونية، وهي تذرف الدموع على ابنها المراهق.
ولا شك أن فرنسا تواجه أزمات داخلية تتوالى وتزداد في الداخل في غياب التعامل مع الضواحي وسكانها، وهذه أخطر المشكلات على استقرارها، لأنها تراكم المشكلات، وقد تستعصي على الحل، لو استمرت بهذه الطرق والمعالجات الأمنية، وهذا ما قاله العديد من المفكرين والباحثين، ومنهم الفيلسوف الألماني» يورغن هابر ماس» بعد الأزمة الأولى في 2005، وقد أشرت إلى رؤيته المعتدلة المنصفة في مناسبة سابقة، في قضايا التهميش والقمع والإقصاء إذ قال: إن «هذه المشكلة تم التعامل معها ولمدة طويلة جدًا من وجهة نظر سياسة الهجرة. ففي أوقات الإرهاب، تم معالجتها فقط على مستوى الأمن الداخلي. هم أبناء وأحفاد المهاجرين السابقين، هم ومنذ فترة طويلة جزء منا. ولأن الأمر ليس كذلك، فإن ذلك يمثّل تحديًا بالنسبة للمجتمع المدني وليس لوزارة الداخلية. الأمر يتعلق هنا باحترام ذوي الثقافات والديانات الأجنبية في اختلافهم وإدماجهم في إطار التضامن الوطني...الاندماج الناجح هو مسار تعليمي يقوم على أساس المعاملة بالمثل، ويجب على الدولة الليبرالية أن تلزم كل المعتقدات بأن ترتضي بحسن المعاشرة بين الإيمان والعقل، لا يجب أن تكون كمطلب وكملكية خاصة لخط تقليدي غربي وحيد».
وفي الأزمات الماضية أيضا، تحدث عنها العديد من المفكرين والسياسيين، ناقدين طريقة التعامل مع هذه التوترات التي أصبحت مؤرقة للمجتمع الفرنسي، والإشكالية أن الخطاب الفرنسي الموجه للإسلام والمسلمين، أصبح سهما مسلطا ومستمرا بالهجوم والنقد والتشنيع، وفي غياب الموضوعية والتناول العقلاني، وحتى دون مبررات تذكر، تجاه قيم وهويات الآخرين في فرنسا، التي أصبحت مستهدفة بالعداوة والكراهية، ويذكر الباحث والروائي المغربي د/ حسن أوريد في كتابه (أفول الغرب)، إن هذا العداء المستمر للإسلام أصبح «أحد مكونات المشهد الثقافي بل والسياسي والمجتمعي في أوروبا، ويستفحل هذا الخطاب مع ما يغذيه من سلوك (اعتداءات، ضرب مجاني، عنف رمزي...)، مع الأزمة الاقتصادية وتواتر الأعمال الإرهابية. إن ضحايا خطاب العداء ليسوا مهاجرين حلّوا بأوروبا ويحملون جنسيات بلدان إسلامية، بل هم أبناء أوروبا، ويحملون جنسيتها. لقد تحولت العنصرية التي طبعت أوروبا والغرب في القرن العشرين، ولازمت الفترة الاستعمارية والمركزية الغربية إلى عداء لثقافة وحضارة ودين هو الإسلام، وأصبحت مثلما يقول عالم الاجتماع الفرنسي «فنسان جيسير» الذي أفرد للموضوع كتابا «مهنية» «تتلفع بالدراسات واستطلاعات الرأي والخبراء، وتأبى أن تميز بين الإسلام والاتجاهات التي توظّفه لأغراض سياسية». وهناك الكثير من الكتابات الغربية، ومن الفرنسيين أنفسهم، يتحدثون أن التهميش والإقصاء واستعمال القوة المفرطة في قضايا لا تستحق القتل أو المطاردات، بسبب الظروف القاسية التي يعيشونها، ومن هؤلاء الكاتب الصحفي الفرنسي «إيدوي بلينيل» مؤلف كتاب (من أجل المسلمين). وهذه شهادات محايدة لطريقة التعاطي مع الشباب الفرنسي لكنه في الأصل من أصول عربية أو إفريقية، إنما النظرة السلبية له بقيت ثابتة، من خلال أحكام مسبقة، وهي التي تدفع لهذه التوترات، وبدلا من المعالجة الإيجابية، يتم استعادة تلك النظرة المختزنة تجاه الهويات الأخرى.. وللحديث بقية...
