لماذا حاجة الإنسانية لتفاهم الثقافات لا صدامها؟
لا يزال في عصرنا الراهن من يحاول تغذية الخلافات والصراعات التي تنشأ لأسباب اقتصادية أو سياسية أو فكرية، ويحاول أن يجد لها المبررات حتى في الاختلافات الطبيعية، لكي يجد منفذا لتحويل الاختلاف البشري الطبيعي إلى تفسيره خطرا على الآخر المختلف، وكأن هذا الأمر بمثابة دعوة للصدام بين الثقافات التي تحتاج إلى أن تتفاهم وتتعارف وتتقارب بين بعضها البعض، من أجل عمران هذا الكوكب وحمايته من التوتر والاضطراب، ومن أجل إسعاده وتنميته وتحضّره، لا من أجل إعادته إلى ما قبل التاريخ من التأخر والتراجع والعيش في الكهوف والمنحدرات نتيجة الحروب والمجاعات، بعد إشغاله بالصراعات والتوترات بين الثقافات الإنسانية، التي لا تجر إلا إلى الدمار والأحقاد وإثارة النزاعات التي مر عليها قرون من الزمن، وقد مرت وانتهت، وأصبحت جزءا من ذلك التاريخ الذي انطوى في تلك العصور، وما عودة الحديث عن هذه المآسي في هذه الأجيال البريئة، إلا دعوة غير بريئة من الكراهية البغيضة، وهذه الأجيال تحتاج أن تعيش في سلام ووئام، يعم كل البشرية. واللافت الذي يستحق الطرح أن بعض الكتّاب في العالم الغربي بين الفينة والأخرى، يستعيدون الحديث عن الصدام بين الثقافات من خلال بحوث ومؤلفات ودراسات، فيما يسمونه بمخاطر التصادم بين الثقافات المقبل بين العالم الإسلامي والغرب، خاصة مع تزايد أعداد المسلمين في الغرب الليبرالي، مع أنه في روسيا الاتحادية المسيحية، ما يقارب العشرين مليون مسلم، ناهيك عن أعداد المسلمين في الدول الأخرى التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي سابقا وأصبحت مستقلة بعد ذلك، ومع ذلك لم نسمع أية كتابات أو دراسات فيما ما يسمّى بصراع الثقافات أو صدامها داخل هذه الدول.
ونتذكر أن نغمة هذه الآراء والأفكار جاءت من شخصيات ممن لهم تأثير في الفكر السياسي الغربي، وتقدم الدراسات والتحليلات السياسية والاستراتيجية لصناع القرار في الغرب، وأول هؤلاء الذين فتحوا الباب لكتابات الصراع الثقافي والحضاري، المستشرق المعروف «برنارد لويس» الذي له العديد من المؤلفات المعروفة والمترجمة التي تنضح تحريضا على الثقافة العربية/ الإسلامية، وتحذر من هذه الثقافة وخطرها على حضارة الغرب وفكره وثقافته، ويعرف عنه أكثر تعصبا وتحريفا للإسلام والفكر الإسلامي في بعض كتاباته التي تبرز هذا التحريض في بعض ما كتبه: «إذا كان المقاتلون في سبيل الإسلام -الحرب المقدسة في سبيل الله- يقاتلون من أجل الله، فإن ذلك يستتبع القول إن خصومهم يقاتلون ضد الله. وبما أن الله هو المهيمن ومصدر السلطات من حيث المبدأ، وهو أيضا القائد العلوي للدولة الإسلامية، والنبي (وخلفاؤه من بعده) وكلاء مباشرون عنه، فإن الله إذن هو راعي الجيش وقائده. الجيش هو جيش الله، والأعداء هم أعداء الله، فواجب جنود الله إذن هو إرسال أعداء الله بأقصى سرعة ممكنة إلى حيث سيتولى الله بنفسه معاقبتهم وتأديبهم، أي إلى الآخرة». ويعرف «برنارد لويس» -إن لم يكن منصفا- أن الحرب في الإسلام دفاعية وليست هجومية والجهاد في الإسلام هي للدفاع عن الدين وليس فرض الدين على الناس أو إجبارهم لدخول الإسلام كما يقول لويس آنفا!! الجدير بالذكر أن برنارد لويس من أصول يهودية، وهذه نزعة دافعة للتحريض، منذ احتلال فلسطين بعد عام 1948، مع أن العرب والمسلمين حموا اليهود وفتحوا لهم الأبواب في بلادهم، مما واجهوه من الطرد والهجرة القسرية والمحارق الشهيرة في أوروبا ضدهم، خاصة في ألمانيا النازية التي بدأ مخطط قتل اليهود في عام 1920، بحجة نقاء العرق الألماني الآري، من خلال القضاء على اليهود، ومن هنا جاءت الهجرة للبلاد العربية والإسلامية منهم، وهذا غير الوجود اليهودي في البلاد العربية والبلاد الإسلامية، وهم بالملايين منذ العصر الإسلامي الأول، في مصر والعراق واليمن والمغرب العربي وتركيا وإيران وبلاد أخرى فيها غالبية مسلمة، فجاءت هذه الهجرة المعاكسة السلبية والظالمة منهم للعرب بوجه خاص، أو كما يقال في المثال الشهير (تم الجزاء بجزاء سنمار)، والتخطيط لاحتلال فلسطين، وهذه القصة كما قيلت في الروايات المنشورة: «إن ملك الحيرة النعمان كان مزهوا بقوته، مفتخرا بمملكته، وكان يباهي بها أمام الملوك الآخرين من العرب والفرس، فأراد ذات يوم أن يشيّد على أرضه قصرا عتيدا مجيدا، يصل صداه إلى أقاصي الأمم، فاقترحوا عليه مهندسا من الروم يدعى سِنِمّار، وقد عُرف بإتقانه الشديد في تصميمه وحرفته في الزخرفة والبناء، وكان جزاء ذلك قتل هذا المهندس.. فُتم جزاء صنيعه الجيّد بآخر سيئ، فجاء هذا المثل:(جزاؤه جزاء سنمار)». وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، لكن هذا الإحسان جاء معاكسا من اليهود بدل إحسانهم، خاصة من الدوائر الصهيونية في الغرب.
ولا شك أن اللوبي الصهيوني في الغرب بحكم تأثيره في الدوائر السياسية والاقتصادية والإعلامية، أدى دورا لا يخفى على المتابع الفطن في تغذية ما يسمى في الغرب بـ(الإسلاموفبيا) -الخوف من الإسلام- من فكره ودينه وثقافته وحتى حضارته، مع أن الحضارة العربية/ الإسلامية، أثّرت في الغرب تأثيرا كبيرا، باعتراف الغربيين المنصفين منهم، خاصة الوجود الإسلامي الحضاري في الأندلس، وهو ما اعترف بذلك الكاتب الأمريكي «واشنطن إبرفنج» عندما قال: «إن فتح العرب لإسبانيا قد حمل معه حضارة أرقى وطرازا في التفكير أنبل، فالعرب أناس شاعريون، لامعو الذكاء سريعو البديهة، أصحاب إباء وشهامة وحكمة، وعقل». كما جاء الاستمداد الغربي من الحضارة العربية/ الإسلامية، بعد وجودهم عدة قرون في البلاد العربية خاصة الشام، وما جاورها، بعد الغزو الصليبي. ثم جاء تلميذ برنارد لويس «البروفيسور صامويل هنتنغتون»، فبعد سقوط العسكر الاشتراكي في بداية التسعينيات، أصدر أطروحته الشهيرة التي كتبها في مجلة «فورين أفيرز» 1993: (صدام بين الحضارات)، والتي تحولت بعد ذلك إلى كتاب بهذا الاسم، وقد أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الأكاديمية، والسياسية والفكرية، وكان من المفترض أن تتم المراجعة بطريقة عقلانية وواقعية بغض النظر عن حاجة بعض المؤسسات في الغرب لمثل هذه الأطروحات وترويجها لأسباب متعددة ومتوافرة وفق المنظور الاستراتيجي القائم، لأن ما قيل في هذا الكتاب يعد خطرا بكل المقاييس على تقارب الثقافات والحضارات وتفاهمها وتواصلها، سواءً وافقناه فيما طرحه من آراء وتحليلات أو اختلفنا معه.. فالأهم أن كتاب البروفيسور هنتنغتون يسهم في تأجيج الصراع المفترض وإعادة طرح العداوات القديمة المدفونة بمفاهيم ونظريات جديدة وافتراضات قد لا تكون صحيحة في الواقع، لكنها ربما تجد من يصغي لها في ظل التوتر والتنافس في وقت تحتاج الإنسانية إلى التعاون والتعايش والتماسك والوئام.
والإشكال القائم الآن كما يعتقد البعض هو التخوف من الانتقام مما فعلته الحضارة الغربية بالحضارات والثقافات التي أخضعتها لهيمنتها، وهو ما اعترف به «هنتنغتون» في أحد اللقاءات الصحفية معه، عندما قال: «ابتداءً من سنة 1500م بدأ التوسع الضخم للغرب مع جميع الحضارات الأخرى وقد تمكن الغرب أثناء ذلك من الهيمنة على أغلب الحضارات وإخضاعها لسلطته الاستعمارية وفي بعض الحالات دمر الغرب تلك الحضارات».
إذن هناك شعور بالذنب في الغرب يقابله شعور آخر مما قد تفعله هذه الحضارات في حالة صعودها، أو تفوقها، أو نديتها مع الغرب، وهو اعتقاد لا مبرر له على الإطلاق، أو على الأصح اعتقاد وهمي تبريري لكوامن نفسية ذاتية في طبيعة الغرب، الذي يؤمن بقضية الصراع حتى مع نفسه حيث ظل يعاني من هذه العقدة، بين مثاليته التي يؤمن بها ومركزية حضارته وبين الواقع الذي يعيشه، والأخطر في هذه الأطروحة، كما نعتقد هي تلك الرؤية الأحادية للاختلاف بين الثقافات التي أصبحت الآن متداخلة مع بعضها البعض حتى في الغرب نفسه، وليس في خارجة، حيث يرى «هنتنغتون»: إن الاختلاف الثقافي دليل الانقسام والتصارع، وهذه للأسف نظرة شمولية يفترض ألا تقال من الغرب الديمقراطي العقلاني كما يقول هو، بحكم أن طرحه الذي يرفعه يؤكد على أهمية التعددية والاختلاف والتنوع بين الحضارات الإنسانية، وإذا ما نظرنا نظرة فاحصة إلى تاريخ الحضارات ونشأتها نجد أن التعدد والاختلاف سمة عامة في أغلب الحضارات الإنسانية عدا بعض المحطات القليلة في فترات الانحطاط والتراجع الحضاري، وهي حالات بشرية لظروف متعددة يطول شرحها، فالثقافات حقيقة لا تتصارع، لكنها تتفاعل وتتقارب، لكننها تتنافس في النظر والفكر، أو كما يسميه القرآن الكريم (بسنن التدافع).. وللموضوع بقية...
