لماذا تتجاهل الأسواق الماليةحرب ترامب على الاحتياطي الفيدرالي؟

10 سبتمبر 2025
10 سبتمبر 2025

حين أثار هجوم الرئيس دونالد ترامب على الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وعلى عضو مجلس محافظيه ليزا كوك تعبيرات عن القلق الشديد بين أهل الاقتصاد والمعلقين، استجاب المستثمرون بقدر عظيم من عدم الاكتراث.

قد يبدو هذا وكأنه انفصال دراماتيكي. ولكن في حقيقة الأمر، كل من المجموعتين لديها أسباب وجيهة للاستجابة على هذا النحو المختلف. الواقع أن المعلقين المهتمين باستقرار وسلامة السياسة النقدية في الولايات المتحدة لديهم كل الأسباب التي تجعلهم يشعرون بالرعب إزاء محاولة ترامب «إقالة» كوك قبل ما يقرب من ثلاثة عشر عاما من انتهاء فترة ولايتها. (على سبيل الإفصاح الكامل: أشرفت شخصيا على أطروحة الدكتوراه التي قدمتها كوك في جامعة كاليفورنيا في بيركلي). يُـعَـيَّـن أعضاء مجلس المحافظين لفترات طويلة في المنصب على وجه التحديد لعزلهم عن الضغوط السياسية. الحق أن قِـلة من قوانين علم الاقتصاد قد تكون أشد رسوخا من فرضية مفادها أن البنوك المركزية المستقلة عن السياسة تؤدي عملا أفضل في تنفيذ السياسة النقدية. فهي تحقق تضخما أقل وأكثر استقرارا دون تكاليف واضحة في هيئة بطالة أعلى وأشد تقلبا. ولا يخلو الأمر من وفرة من الأمثلة المضادة، بشكل رئيسي ولكن ليس حصريا من الأسواق الناشئة، حيث يعين الزعيم السياسي إمّـعة لقيادة البنك المركزي، ثم يخضع هذا الإمّـعة لأهواء الزعيم. وكقاعدة عامة، تسفر مثل هذه الأحداث في عموم الأمر عن نتائج سيئة. فالسياسيون يهتمون بالانتخابات القادمة أو استطلاع الرأي العام المقبل، وبفضل ما يتمتعون به من سلطة يتلاعبون بالسياسة النقدية وهم يضعون هذه الأهداف القصيرة الأجل نصب أعينهم. من ناحية أخرى، يهتم محافظو البنوك المركزية بمصداقية المؤسسة والقائمين على إدارتها.

والمصداقية تعني تحقيق ما يعدون به على نحو ثابت. وهذا يرسخ التوقعات ويحقق الاستقرار في النتائج الاقتصادية. كانت مصداقية التزام الاحتياطي الفيدرالي بهدف التضخم الذي حدده عند مستوى 2% هي السبب وراء رسوخ توقعات التضخم في السنوات الأخيرة والسماح لصُـنّاع السياسات بخفض التضخم دون زيادة واضحة في البطالة.

لن تُـفضي محاولة إقالة محافظين حاليين دون سبب وجيه لمجرد الرغبة في استبدالهم بأتباع مستعدين لتنفيذ نظرية راعيهم السياسي الأثيرة إلى تعزيز هذه المصداقية. يصدق هذا على نظرية ترامب التي تزعم أن النمو الاقتصادي القوي يبرر خفض أسعار الفائدة مثلما يصدق على نظرية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي تزعم أن أسعار الفائدة المرتفعة تجلب التضخم.

على سبيل التوضيح، الاستقلالية لا تعني انعدام المساءلة. فالمرشحون لعضوية مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي يجب أن يُـصَدِّق مجلس الشيوخ على تعيينهم. ويُـسـتَدعى الأعضاء بانتظام إلى مقر الكونجرس في كابيتول هِل للإدلاء بشهاداتهم. مع ذلك، يتساءل المرء عن مدى استعداد الكونجرس الحالي لرفض مرشح ترامب أو انتقاد سياسات الاحتياطي الفيدرالي الذي يهيمن عليه ترامب. وهذا يحيي الشبح المقلق المتمثل في قدرة ترامب على فرض ثلاثة تعيينات في مجلس المحافظين المكون من سبعة أعضاء في العام المقبل، اعتمادا على ما قد تؤول إليه قضية كوك وما يقرر رئيس المجلس جيروم باول فِـعله عندما تنتهي فترة ولايته كرئيس في مايو.

يشير بعض المعلقين إلى أن اثنين من أعضاء مجلس الإدارة، وهما ميشيل بومان وكريستوفر والر، منحازان بالفعل إلى ترامب في حجته الحالية لصالح خفض أسعار الفائدة. وهذا يعني، كما يقترحون، أن ترامب يحتاج إلى ثلاثة مقاعد إضافية فقط قبل أن يمتلك أغلبية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، بما يسمح له بفعل كل ما يحلو له. هذه الأغلبية المطيعة قادرة على ممارسة حق النقض (الفيتو) على إعادة تعيين رؤساء البنوك الاحتياطية الإقليمية الاثني عشر من ذوي الفِـكر المستقل، والذين تشكل مجموعة فرعية منهم بالتناوب عضوية لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية التي تحدد أسعار الفائدة. وعند هذه النقطة، ستكتمل الهيمنة. لكن هذا يشكل سوء فهم لمواقف بومان ووالر. فقد كان قرار لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية في اجتماعها الأخير حول ما إذا كانت لتخفض أسعار الفائدة أو تثبتها، كما فعلت، متوازنا بدقة. ذلك أن سوق العمل بدأ يتراجع، الأمر الذي خلق حجة ثابتة لصالح خفض أسعار الفائدة. في الوقت ذاته، يظل التضخم فوق مستوى 2% بعناد، وهذا سبب لتثبيت أسعار الفائدة. بومان ووالر من المهنيين المتمرسين الذين يدركون أهمية استقلالية البنك المركزي وقيمة المصداقية. وينبغي لنا أن ننظر إلى حقيقة معارضتهما في الاجتماع الأخير على أنها مطمئنة وليست مقلقة. إنها تذكرة بأن أيا كان من يعينه ترامب ليحل محل باول من غير الممكن أن يفترض أن أعضاء المجلس الآخرين سيصادقون تلقائيا على قراراته أو قراراتها. عند هذه النقطة، تبرز الاستجابة المتفائلة من جانب الأسواق المالية. فحتى لو نجح ترامب في تأمين ثلاثة أعضاء معينين في مجلس الاحتياطي الفيدرالي في العام المقبل، فمن غير الواضح على الإطلاق ما إذا كان ليتمكن من فرض سياساته. بعد ذلك، ربما يكون كل شيء في حكم الممكن، بما في ذلك مزيد من «الإقالات» والتعيينات المريبة. لكن عاما واحدا هو الحد الأقصى لمدى قدرة المستثمرين على النظر إلى المستقبل. فالأسواق المالية قصيرة النظر بكل تأكيد. على النقيض من ذلك، تقع على عاتق بقيتنا، وكذا الكونجرس والمحاكم، مسؤولية النظر إلى أبعد من ذلك في المستقبل. إذا كان بالإمكان إقصاء كوك، فلِم ليس غيرها؟ هذا هو السبب الذي يجعل هجوم ترامب مرعبا.

باري آيكنجرين أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، مستشارٌ سياسي كبير سابق في صندوق النقد الدولي. ألّف العديد من الكتب، منها كتاب «في الدفاع عن الدين العام».