لماذا الحديث عن الثقافات وليس تفاهمها ؟

28 فبراير 2024
28 فبراير 2024

مرت حتى الآن أكثر من ثلاثة عقود على صدور الكتاب الذائع الصيت (صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي)، للمفكر الأمريكي البارز «صموئيل هنتنجتون» الذي كان عبارة عن أطروحة نشرت في مجلة [فورين أفيرز] الأمريكية، نشر عام 1993 قال فيها ما خلاصته: «إن الحضارات سوف تتصادم لاختلاف الأفكار والأيديولوجيات بين هذه الحضارات، وتنبأ بأن الصدام المقبل سيكون بين الحضارات الإسلامية والكونفوشيوسية الصينية، وبين الحضارة الغربية المسيحية». وحظيت هذه الأطروحة ـ التي تحولت إلى هذا الكتاب -كما أشرنا- بردود ومناقشات وتعقيبات وزادت من شهرة هذه الأطروحة بعد ذلك أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

والحقيقة هذه لو صحت، أن الاختلاف أو الصدام يكون بين الثقافات وليس الحضارات، ذلك أن الحضارات لا تتصادم لمجرد الاختلاف في الرؤى أو الأفكار أو التوجهات السياسية أو الفكرية أو حتى الدينية، لطبيعة التعددية الفكرية والدينية والسياسية، لكن الذي يدفع إلى التصادم هو عدوان ثقافات على الحضارات والثقافات الأخرى، ضمن أهداف الهيمنة والسيطرة، كما فعلها الاستعمار الغربي لبلدان كثيرة منذ القرن التاسع عشر وما بعده، وهي ضمن الصراعات السياسية التي تحدث، كما حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، وسميت بـ(الحرب الباردة) وهو صراع على النفوذ والسيطرة الاقتصادية، وهذا لم يشر إليه «صموئيل هنتنجتون» أو تحدث عنه في هذا الكتاب المشار إليه آنفًا، إنما طرح أحكامًا مسبقة ومدفونة، كان قد طرحها مستشرقون وباحثون غربيون من النصف الأول من القرن الماضي، وهو أن الإسلام عدواني بطبعه وأن للإسلام حدود دموية، وسيشكل خطر على الحضارة الغربية إلخ!.

والواقع أن ما قاله هذا الأكاديمي الأمريكي غير المنصف في تحليله، اعتبر بلا مواربة أو غموض، أنه يهدف إلى دفع المؤسسات الغربية إلى الخوف من الإسلام وقوته وتأثيره مستقبلاً، وعدم الاستكانة والارتخاء لسقوط الاتحاد السوفييتي، و(النوم في العسل) بل يرى أن على القوى في الغرب أن تستيقظ لهذا المارد الصاعد، وهو الخطر الأخطر بعد سقوط الخطر الأحمر، والمقصود بالخطر الشيوعي آنذاك. والأطروحة تأتي ردًا مباشرًا على أطروحة «فرانسيس فوكوياما» في (نهاية التاريخ)، فكانت هذه الأطروحة والكتاب لهنتجتون التي تستفز الغرب وتحركت هواجسه النائمة من مخاطر متوهمة، وهو عليه أن يستعيد الصراعات التي مرت منذ قرون، وهو أن الإسلام، العصيّ على الانقياد كما يعتقدون، وهنا تكمن مخاطره كما يقولون، أو يتوهمون ذلك، وربما يقصدون أن المسلمين لا يزالون يرون أن إسرائيل عدوة لهم، أو أن الحقوق المهدورة للفلسطينيين ساهم فيها الغرب في قيام إسرائيل ودعمها فيما قامت به في حروبها، سواء ضد الدول العربية، أو حروبها ضد الفلسطينيين على أرضهم، وهذا بلا شك رؤية ظالمة وغير عادلة، وهم يدركون أنه لو حُلت القضية الفلسطينية، لساد السلام والوئام بين المسلمين والغرب، كما أن العلاقات العربية / الغربية في أغلبها ممتازة، لكن الاحتلال الصهيوني في فلسطين هو العقبة الكأداء لتحقيق السلام العادل، كما يجري الآن في غزة من إبادة جماعية للمدنيين ولا تزال مستمرة ضدهم، دون أن يتحرك الغرب -ويقدر لو أراد- لوقف هذا التمادي في هذه الإجرامية.

وقضية الصراع أو الصدام، ليست جديدة على الفكر الغربي بشكل عام، فقد طرح «تشارلز داروين» نظريته في «البقاء للأصلح» من خلال الصراع بين الكائنات الحية وعوامل البيئة والمناخ وغيرها من العوامل الأخرى المساندة لهذا الصراع. ثم جاءت النظرية الماركسية في صراع الطبقات وتفسيره بأنه محرك التاريخ وهكذا، فإن «هنتجتون» جاء بنظرية ملخصها أن الاختلاف الفكري والفروقات الثقافية ستدفع الحضارات إلى الصراع والصدام ويرى الكاتب المصري ميلاد حنا «أن نظرية هنتجتون تعتبر الصفارة التي تعلن البدء للتحرك، والتي يبدو «أنها تحقق غايات وطموحات السياسة الأمريكية، التي تعتمد -أول ما تعتمد- على ضرورة خلق و «ابتداع» عدو خارجي يهدد «الحضارة» والقيم الأمريكية عمومًا والغربية خصوصًا. ولذا طرح هنتجتون نظريته أو رؤيته، وكان في ضوء معطيات الصراعات الحالية ترشيح الإسلام ليكون العدو المنتظر للغرب، ثم ذهب إلى مدى أبعد، وكعملية فلسفية استراتيجية، فافترض تحالفًا بين الإسلام والكونفوشية مجتمعين ومتعاونين في مواجهة الغرب، حتى أن كتّابًا كثيرين وقعوا في فخ الرؤية القائلة أن العالم سيتحول إلى صراع بين الغرب واللاغرب». فهذه الأفكار التي طرحها هنتجتون هدفها دفع مؤسسات صناعة القرار إلى التهيب والحذر من الآخر المسلم بدعاوي أن المسلمين يحملون أفكار عنيفة، وإذا ما أصبح لديهم قوة سوف يدمرون الغرب ويهدمون حضاراته.. إلخ: لذلك فإن دعاوي «صموئيل هنتنجتون» هي نفسها التي تدعو إلى الصدام وقهر الآخر والسباق لتجريده من قوته وتجريده من أسباب القوة والندية، وهو ما يسمى في علم السياسة والاستراتيجيات بـ(حروب الاستنزاف أو الحروب الاستباقية للآخر في إطار الصراع السياسي).

فهذه الرؤية من «هنتنجتون» كما قال د. محمد أبو الفضل، هي أنه: «عمل على توسيع هوة الخلاف بين الغرب والدول الإسلامية التي وجدت نفسها بعد صراع طويل ضد الغرب في الحقيبة الاستعمارية في صراع جديد ضد الغرب أيضًا الذي يتيه بهيمنته في كل المجالات، ويجب أن نعترف هنا بأن تراث الحقد يقوي مجالات الصراع ويذكي أوار الاختلاف، فهناك سقوط الأندلس والحروب الصليبية وتصفية الجيوب الإسلامية ومساعدة الأقليات غير المسلمة لتنشط ضد المسلمين، بل مساعدة بعض العناصر المتطرفة من المسلمين حتى تنشأ حروب أهلية ناهيك عن النظام العالمي الجديد / القديم الممسوخ الملامح».

وعبر عن ذلك «مانفريد أوستن» الأمين العام لمؤسسة همبولت عن قلقه لتجاهل الغرب للحضارات الأخرى مناديا بضرورة «أن نتعلم كيف نفهم بشكل أفضل لغة الحوار مع الأمم الأخرى، لكن قدرتنا على الحوار لن تزداد إلا إذا بدأنا بتعلم لغات الأمم الأخرى بصورة مكثفة. ولهذا نحتاج إلى سياسة ثقافية تقوم على فهم طبائع الشعوب بحيث نصبح قادرين على التعامل مع خصائصها المتميزة في التفكير والشعور، لقد خبرت خلال إقامتي في شرق آسيا -كما يقول- إن الناس هناك طوروا نوعًا من الاعتداد بالنفس يقوم أساسًا على أنهم لن يقبلوا حضارتنا على المدى الطويل إلا إذا كنا نحن بدورنا مستعدين للاهتمام بحضارات تلك الأمم الحضارية وبطبائعها اهتمامًا جادًا وعميقًا». فهذه الأطروحة هي نفسها الدافعة والمحرضة على الصدام؛ لأنها تشعل نار الأحقاد والتوترات بين الحضارات والثقافات لمجرد الاختلاف والتباين وهذا الاختلاف فطرة إلهية بين مختلف البشر. ومن الحكمة أن ينظر الغرب إلى مسألة التباينات بين الإسلام والغرب بمنظار الواقع وهو أن المظالم والقمع والقهر بمعايير غير عادلة هي نفسها الدافعة إلى الصراع والصداع وليس الاختلافات الفطرية الأنانية. لكن البديل الأفضل والأرقى لمقولة صراع الثقافات أو الحضارات- كما يقول البعض- ومنهم صاحب نظرية (صراع الحضارات)، هو أن تتفاهم الثقافات أو الحضارات وتتقارب من خلال الحوار الجاد الخالي من الاشتراطات والفرض والإرغام على الدول الأقل نموًا، لكن عليها أن تعترف بالآخر المختلف، ضمن الاختلاف المتعارف به بين الثقافات الإنسانية، وهو أن يكون التواصل والتعايش هو الوسيلة الإيجابية لتجنب الإنسانية عواقب الصراعات والتوترات والحروب، ضمن المشتركات الإنسانية بين الشعوب في هذا العصر، وبقدر ما تعظم الحاجة إلى إيجاد «حوار جدي بين الثقافات والحضارات، لإقامة جسور التفاهم بين الأمم والشعوب، ولبلوغ مستوى لائق من التعايش الثقافي والحضاري، يقوم على الفهم المتبادل لتهيئ الأجواء المناسبة لإجراء هذا الحوار، فيما هو مختلف بينهم في قضايا عالقة أو خافتة، وإيجاد الشروط المقبولة الصحيحة التي تسهم إلى إيجاد الأرضية المنشودة والغايات المقصودة.

ولا شك أن التفاهم بين الثقافات من خلال الحوار مع الآخر، ضرورة ملحة في عصرنا الراهن الذي يموج بالتوترات بين بعض الدول في عصرنا الراهن، ولذلك يجب ألا نرفضه وفق مسوغات ليست دقيقة بينه، والإسلام يدعو للحوار كما جاء في القرآن الكريم، لاسيما أن دعوة الحوار بين الحضارات، جاءت من الطرف الإسلامي دعوة عالمية من خلال سعي الحضارات لبناء علاقاتها على الحوار الإيجابي والتبادل الثقافي والتفاعل الحضاري الذي هو سمة الثقافات عبر التاريخ، وتقوم على ثقافة الحوار والتسامح، وبديلاً لمقولات الصدام والصراع. وهذا يتم من خلال المنهجية السليمة في الحوار الهادف، والسعي الجدي لقيام حوار بين الحضارات والثقافات مبني على الرغبة الصادقة في التفاهم والتعاون، فالحوار بين الثقافات لا يمكن أن يؤدي دوره المنوط به إلا من خلال إثراء التعاون الإنساني، والتفاهم الذي يؤدي إلى تقارب وجهات النظر بين أطرافها. فالحوار يظل مطلبا ملحا في عصرنا الراهن، ولا غنى عنه للإنسانية جمعاء، إذا ما أرادت أن تعيش بمنأى عن الصراع السلبي وتتجه للتدافع السلمي في معركة الحياة في التقدم والإبداع، الذي هو في الأصل سنة إلهية كونية، بين الأمم، فالحوار بين المختلفين المبني على المنهج الصحيح، يجب أن يسود بين الحضارات والثقافات، وأن يتحقق فيه شرط التعايش والتعدد والتنوع، ويقتنع الجميع أن الحوار بين الثقافات هو السبيل الأجدى والأفضل للتغلب على الحروب والتوترات، أو ما يسمى الآن بمشكلات الإرهاب وتوابعه بعد تجديد مفهومه بصورة سليمة وصحيحة، وبعيدًا عن المزايدات والمقاييس غير المنصفة، والأحكام المسبقة الظالمة، ومن خلال هذه المنهجية يمكن أن يتم إرساء مفاهيم إيجابية للتفاهم الجدي والصادق بين الثقافات والحضارات الإنسانية.