لماذا الانقضاض على الدولة الاجتماعية في الخليج؟!

22 سبتمبر 2021
22 سبتمبر 2021

د. عبدالله باحجاج

المتأمل في المسارات الجديدة في دول مجلس التعاون الخليجي، سيلاحظ أنها تسابق الزمن في الانقضاض على الدولة الاجتماعية التي أسسها الجيل الأول من القادة في الخليج منذ بداية السبعينيات، وكلنا نعلم الأسباب، وحتى لما انتقل بعضهم في المنتصف الثاني من عام 1996 إلى الليبيرالية لم ينعتق من مفهوم الدولة الاجتماعية، فظل هذا المفهوم يزاوج المفهوم الليبيرالي في دور الدولة في الخليج، وهذا ما يمكن ملاحظته في تعدد وتنوع الحمايات الاجتماعية رغم انخراط الدول الخليجية في منظومة العولمة والخصخصة، والآن نجد العكس، تنهار منظومة الحمايات الاجتماعية، ومعها تتعالى الصرخات الاجتماعية، وتتعمق في البنيات الاجتماعية، وتمس كل الأجيال، فكيف يبدو مستقبل الدولة الاجتماعية في مسيرة تجديد الدولة في الخليج.

يسود الذهول الاجتماعي من عملية الانقضاض السريع والمتتالي للدور الاجتماعي للحكومات، والمفارقة التي تدعو للدهشة والاستغراب هو أن عملية استهداف الحمايات الاجتماعية لا يأخذ بعين الاعتبار الانعكاسات المحسوبة على الاستقرار الاجتماعي في مختلف الآجال الزمنية -القصيرة والمتوسطة والطويلة- كما لا يعتد كذلك بالتأثير الاجتماعي على مرحلة صناعة المستقبل الاقتصادي الجديد في الخليج خاصة، وعلى الأوضاع السياسية في المنطقة عامة، وبالقليل من التأمل في العمق، ستظهر خارطة التداعيات على مستوى كل دولة لو استمرت مسارات الانقضاض على الحمايات الاجتماعية، ودون إعادة النظر في بعضها على الأقل.

وتتم عملية الانقضاض بسرعة زمنية فائقة السرعة، وبشمولية مثيرة، تتهاوى معها معظم الحمايات الاجتماعية، والاحتفاظ بحماية في حددوها الدنيا لفئات في القاع الاجتماعي، وحتى هذه الفئة، لم تسلم من التأثير السلبي في أبسط حقوقها الأساسية، كالمأكل والمشرب والمسكن.. في ظل تبني منظومة متصاعدة من الضرائب وفرض ورفع الرسوم على كل الخدمات الحكومية تقريبا... ألخ، مما يجعل المشهد العام يكشف أن كل فئات المجتمعات بلا حمايات آمنة، وأنها في مهب رياح عاتية داخلية وخارجية.

وهذه الرياح، هي التي تقف وراء فتح هذا الملف الآن، لعله يلامس الوعي السياسي الخليجي في الوقت المناسب، وهو وقته الآن، وأفتحه من خلال رصدي للشأن الخليجي، ومتابعة تفاصيله، واستشراف انعكاساته على مجمل الثوابت التي تمس الاستقرار الاجتماعي والسياسي من جراء التحولات والسياسات التي تتخذ تحت ضغوطات قهرية لأسباب متعددة، منها خارجية، وأخرى داخلية، ولدواعي تحريك هذا الوعي السياسي، نطرح التساؤلات التالية:

- ماذا تتوقع الأنظمة الخليجية من الانهيار السريع للحمايات الاجتماعية التي كانت تشكل أعمدة أساسية لاستقرار مجتمعاتها منذ خمسة عقود؟

- هل لديها دراسة استشرافية مسبقة بالانعكاسات بشقيها الإيجابي والسلبي؟

- ما مدى تقاطع الجماعات الأيديولوجية المتطرفة والمسلحة والفكرية الأخرى مع مرحلة الأنقاض على الحمايات الاجتماعية؟

وفي مقالي السابق المعنون باسم «هجرة كفاءات وخبرات عمانية للمحيط الخليجي» رسمت خارطة بماهيات هذه الجماعات التي أصبحت ظاهرة الآن فوق السطح الخليجي، غير تلك التي تنشط الآن بفكر إعادة إحيائها استغلالًا لما ستنتجه مرحلة الانقضاض على الحمايات الاجتماعية من بيئات مواتية للاختراق، وبأمل انتصار حركة طالبان على أكبر دولة في العالم، وتعريتها -أي طالبان- للمنظومة الدفاعية الغربية التي عجزت حتى عن حماية جنودها والمتعاونين معها في مطار كابول.

وهناك تساؤل يشغلني كثيرا، وإجابته تكاد تبلغ فيَّ مبلغ اليقين، لذلك سأطرحه من منظور الاستئناس به للعقول التي قد تهتم بما يطرحه هذا المقال من هواجس وطنية وخليجية مشروعة، وإذا لم أطرحه -أي التساؤل- فإن مقالي، سيفقد أهم الجوانب الموضوعية في سياقاته التحليلية، وانتصارا لهذا السياق، فإنني أطرحه بالصيغة التالية:

- هل يمكن أن يكون وراء الانقضاض على الحمايات الاجتماعية أفكار أو نصائح أو حتى ضغوطات خبيثة لها أجندات سياسية أو أيديولوجية؟

لا ينبغي أن نستبعد أي احتمالات يمكن أن تقودنا لفهم الخلفيات إذا كان مستقبل الاستقرار الاجتماعي يهمنا، وإذا كنا نرى فيه أنه منطلق للاستقرار العام، وديمومته، وأنه جوهر العلاقة غير المكتوبة بين الأنظمة ومجتمعاتها، والتساؤل سالف الذكر، ينبغي أن يحكم قضية الانقضاض على الحمايات الاجتماعية بنموذجها المطبق حاليا، لأن هناك تساؤلا آخر يطرح تباعا، والإجابة عليه بصراحة، سيحسم القضية الكبرى التي يطرحها التساؤل سالف الذكر، وربما الكثير من القضايا المعاصرة، والتساؤل هو:

- هل تعتقد الدول الخليجية أنها يمكن أن تنجح في مسيرها نحو المستقبل الجديد بعد تفكيك أنظمة الحمايات الاجتماعية التقليدية بالسرعة والكيفية المثيرة للجدل ودون إيجاد البدائل الأمنة؟

على يقين تام، بأنه عندما يتم إعمال العقول السياسية في الخليج من منظور التساؤلات سالفة الذكر، وبالذات التساؤل الأخير، ودراسة سياسات وخطط الانقضاض على الحمايات الاجتماعية، فإنها ستنكشف لها خارطة المخاطر الاجتماعية، وستجد في تلك الخطط والسياسات محاولة إرادية مع سبق الإصرار والترصد على فصل الأنظمة عن قوتها الاجتماعية، وجعل المشهد في الخليج في حالة شد وجذب دائمة بين القمة والقاعدة، لأسباب معروفة -قديما وحديثا- لأنه ما في منطقة عقل سياسية تسلم بتفريغ المحتوى الديموغرافي من ثوابته خاصة في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية المستجدة وغير المسبوقة.

وعلى يقين كذلك، أن هذه العقول ستخرج بنتائج قطعية، ستجعلها حاكمة للحكومات في مواجهتها للازمات المالية، وفي إدارتها لجنوح الانتقال إلى نظام النيوليبيرالية الذي نشم رائحته في التوجهات المصيرية الراهنة في الخليج، وستتفق العقول معي بحتمية بقاء الإنفاق الاجتماعي للحكومات الخليجية، لكن بصورة ذكية، بحيث يكون أهم موجهاتها، ربط السياسة المالية بالأوضاع الاجتماعية، ودور هذه السياسة في ديمومة العلاقة السياسية بين المجتمعات الخليجية وأنظمتها السياسية.

فلا يمكن للحكومات الخليجية أن ترفع يدها عن الإنفاق الاجتماعي أو أن تنزل حماياتها الاجتماعية إلى حصره في الحد الأدنى لفئات الضمان الاجتماعي ومحدودي الدخل فحسب، مهما كانت الأسباب، سترى كذلك أن قدرها على ثلاثين سنة مقبلة على الأقل أن تظل الفاعلة الأول -ليس الوحيد- في مجتمعاتها، لأن سياسة الحكومات السابقة على مدى خمسين سنة الماضية، لم تصنع المجتمعات لمرحلة ما بعد رفع وصاية الحكومات عن المجتمعات، والانتقال لعصر الضرائب، فكيف يتم رفعها الآن بصورة درامية، وبتداعيات مؤلمة، وبتفاعلات متزايدة، تمس ثوابت كبرى بصورة جريئة جدا؟

وحتى لو افترضنا وجود ثلاثية قطاعية «القطاعات الحكومية والخاصة والمدنية» متكاملة البنيان، وفاعلة التأثير الاجتماعي، ومهنية التأطير والتنفيذ، فإن ذلك، لا يستوجب السرعة الانقضاضية على الحمايات الاجتماعية، فكيف بعدم وجود هذه الثلاثية القطاعية، والفرق واضح بين تعزيز الأمان الاجتماعي، أو إعادة تشكيله، وبين تفكيكه، وما يحدث الآن، هو الضرب في أعماق هذا الأخير، ونلمس أشكاله المختلفة من تموقعاتي الاجتماعية والوظيفية التي تجعلني ألمس الانعكاسات من الميدان، ويجعلني أعبر عنها بعمق الرؤية وشموليتها.

وأمس، أثناء كتابتي لهذا المقال، تناقلت الأنباء خبر تأسيس مجلس للحماية الاجتماعية في بلادنا يتبع مجلس الوزراء، وحددت أهم مهامه مراجعة الحد الأدنى لأجور العمانيين، وتقدير خط المعيشة اللائق، وإعادة هيكلة قانون الضمان الاجتماعي، وتكوين مؤشر وطني للرفاه الاجتماعي، وهذا التطور يتناغم مع ما أبلوره الآن في هذا المقال، وهذا تزامن يعبر عن التفكير المشترك لتلكم الهواجس السياسية من المنظور الاجتماعي، فإقامة المجلس يعكس الهاجس السياسي العماني من التحولات الكبرى لدور الحكومة الجديد، ومخاوف تأثيره السلبي على قضية الأمان الاجتماعي، وهذا واضح في هذا التطور وإطاره الزمني المحدد للتطبيق، وهو خطة التنمية العاشرة (2021-2025).

وربما يكون مقالي قد جاء في توقيته المناسب، لكي يضع هذه القضية فوق مجلس الحماية الاجتماعية، لكن إلى مدى سيلامس هذا التطور المهم جوهر هذه القضية؟ وهناك تساؤلات تطرح من الآن حول الكيفية التنفيذية في ضوء ما طرحته من سياقات خليجية عامة، وكذلك، كيف سيتم تقدير خط المعيشة اللائق؟ خاصة أن هذا الخط سيكون مرجعية لكل القوانين الاجتماعية، ومن خلاله ستتم إعادة القوانين المعمول بها، وهل سيتم دمج مرئيات المجلس ضمن السياسات المالية والاقتصادية الحكومية كنوع جديد للحمايات الاجتماعية الذكية، انتقالا من الحمايات الاجتماعية التقليدية، أم كبرامج مستقلة مدعومة من الحكومة والشركاء؟ والفارق بين التوجهين جوهري، وأرى أن يتم تبنيهما في آن واحد، وفي سياق إعادة تطوير المجتمع وبهاجس المحافظة على قوة السياسية بين السلطة السياسية والمجتمع.